Tuesday, November 15, 2011

من تـربيتـنا السياسية


فى مقال سابق بعنوان: "الوطن ... وضريبة المواطنة" عرفت فيه مفهوم الوطنية على أنه "الشعور الذاتي بالانتماء, وحب الوطن والاستعداد للتضحية في سبيله." والحقيقة ان هذا الوضع الوجدانى لا يمكن تحقيقة الا اذا توفر الوعى السياسى الراشد والسليم من أجل زرع بدور الوطنية فى المواطن. والذى أعنيه بالوعى السياسى هنا هومحصلة المعرفة والاحساس والادراك الذاتى بالمسئولية وبكل واجبات الوطن. وفى أعتقادى ان هذا الوعى لا يمكن تحقيقه الا اذا توفرة التربية السياسية السليمة والرسائلية والتى تنطلق من قيم حية ونافعة وتسير نحوأهداف واضحة وممكنه.

وعليه فالتربية السياسية هى من أهم القضايا التى لابد على كل دولة عصرية تريد النجاح والتقدم أن تهتم بها, وفى تصورى أن من أهم الاسباب التى أذت الى تخلفنا هو أهمالنا لقضية التربية وخصوصا التربية السياسية. ومن المحزن حقا ان التربية السياسية فى وطننا تعتبر من المحرمات ولايجوز تدولها الا اذا كانت من أجل مناصرة الحاكم والعمل على انجاحة. وعليه فاننى أرى ضرورة فهم هذا المصطلح الفهم الصحيح حتى يمكن تسخيرة وتوظيفة لخدمة الوطن وبناء الدولة العصرية المنظورة. ولعل من أهم الاسئلة التى يجب الاجابة عليها فى هذا السياق هى الاتى:

1. ماذا نعنى بالتربية السياسية؟
2. ما هى أهم المؤسسات التى تلعب دور فى التربية السياسية؟
3. ما هى أهم عمليات التربية السياسية؟
4. ما هى أهم التحديات التى تواجه من يريد اصلاح التربية السياسية؟

"أولا" ماّذا نعنى بالتربية السياسية؟
باختصار يمكن تعريف التربية السياسية على انها كل العمليات المؤسسات والادوات التى يستطيع بها الانسان تعلم واكتساب الاّراء والافكار والقيم السياسية فى مجتمعه. وهى تعنى التهيئة "أوالتأهيل" "أوالتكييف" السياسى فى المجتمع الذى يعيش فيه الانسان. وهى بمعنى أخر تعنى كل ما يساعد الفرد فى المجتمع على تشكيل شخصيتة وتعلمه السلوك والانتماء السياسى . وهذة العملية:

• هى عملية مستمرة تبدا منذ ولادة الانسان وتستمر طول حياته ....
• وهى عملية تعتنى بالكيفية التى يتم بها تأهيل المواطن وتربيته سياسيا و ثقافيا وأجتماعيا ...
• وهى عملية تعتنى بمعرفة مصادر ومؤسسات وعمليات الحصول على المعرفة والحس السياسى فى الدولة..
• وهى عملية تعنى أن التوجهات السياسية لا تاتى من فراغ وان الانسان هو نتاج مجموعة من المعطيات والشروط التى يتربى فيها.
• وهى عملية تعنى أن تحقيق الشخصية السياسية والثقافية هى عملية شاقة وتدريجية وتراكمية.
• وهى عملية التأهيل السياسى الذى يمكن جيل معين فى المجتمع من نقل ثُقافته وأفكاره ومعتقداته للأجيال القادمة ....

"ثانيا" ما هى أهم المؤسسات التى تلعب دورا فى التربية السياسية؟
عند الحديت على التربية السياسية, لعل من أهم الاسئلة التى يجب طرحها للبحت هو: ما هى أهم مؤسسات التأهيل السياسى؟ والحقيقة ان شخصية المواطن تختلف من مجتمع الى اّخر, ومن منطقة الى أخرى, بناء على المؤسسات الفاعلة والمؤترة فى ذلك المجتمع. ولعل من أهم هذة المؤسسات التى تساهم فى بناء الشخصية السياسية هى ما يلى:

1. ألاسرة:
ان دور ألاسرة فى تربية الفرد وزيادة معرفته وفهمه ومشاركته فى العمليات السياسية هو دورا مهم وأساسى. ولعله يكون الاهم فى مرحلة التهائية. أن الأ سرة هي المؤسسة الرئيسية في تشكيل شخصية الفرد. فما أن يصل الطفل السن العاشرة حتى يكون قد اكتسب اْهم القيم التي سوف تتشكل بها شخصيتة. وما سيتعلمه الفرد فى صغره من أسرتة سيكون الركيزة والاساس الذى ستقوم عليه الاشياء الاخرى.

فالأسرة وخصوصا الأبوين هما الذان يعلمان الطفل القيم الاساسية والمعتقدات الاولية. ففي العادة الوالدين هما اللذين يعلمان الطفل قيم التدين ( اوعدمه) وهما اللذين يعطينه معالم شحصيته ورموزها كالأسم الذي يحمله الشحص والمكان الذي ينتمي اليه ... ومن الصعب أن يكون للوالدين بديل, ولهذا يقول المثل الليبى: " لو كان السيد (العم) ايربى ما حد بكى على بوه." لقد لعبت الأسرة هذا الدور الهام في كل المجتمعات وعبر التاريخ البشري. فلا يمكن ان تجد مجتمعا بشريا بدون أسرة ومن جهة أخرى يمكن النظر الي أي مجتمع وتقييم تطورة أو تاخره عن طريق مكانة ودور الاسرة فيه . فبالأسرة تتقدم المجتمعات وبدونها تتأخر ... والأسرة تؤثر في ابنائها بطرق عديدة لعل من اهمها: (ا) مشاركة الوالدين أرائهما مع أولادهم مباشرة- كأن يقول الوالد لاْولاده اعملوا كذا وكذا ... ولا تعملوا كذا وكذا ... ولعل من أهم المصطلحات المشهورة في المجتمع الليبي والتي في العادة يتعلمها الأبناء من أبائهم هو مصطلح (العيب). فى على سبيل المثال هناك أشياء لا يجوز القبام بها حتى ولو لم تكن حراما من الناحية الدينية وذلك لأنها "عيب." و(ب) تقليد الأولاد لأبائهم وخصوصا في المهن والوظائف. ولهذا يقول المثل: "ولد الفار اجى حفار." بمعنى ان الابن فى العادة يشبه أبيه. ونمو الأولاد في محيط العائلة سيساعد على تشكيل شخصية الولد حسب تلك البيئة ... فمثلا اذا كان الأولاد لا يحترمون والديهم فمن باب أولى أنهم لن يحترموا الغير والعكس صحيح.

2. المدرسة:
أما المؤسسة الثانية التي تلعب دورا هاما في التربية السياسية فهي المدرسة, فبعد الأسرة تأتي المدرسة ومن المنظور السياسي يمكن أعتيبار المدرسة أهم موسسة من مؤسسات التأهيل السياسي من أجل تطوير وتقوية النظام السياسي في الوطن وأعطاءه الشرعية المطلوبة. فدور المدرسة في العادة هو ترسيخ قيم المجتمع في الفرد وخصوصا القيم المتعلقة بالشؤون السياسية ونظام الحكم كالمشاركة في نشاطات الدولة, والتسامح مع الآخرين, وأحترام القانون, وحب الوطن والتمسك بالرموز الوطنية. لقد أصبح دور المدرسة في تشكيل الشخصية السياسية في المجتمع من الادوار الاساسية والضرورية في أى مجتمع يريد التقدم والنمو ومن هذا وكما قلت أعلاه يمكننا أعتبار المدرسة أهم مؤسسة من موسسات التأهيل السياسي في الدولة.

فكل متأمل على سبيل المثال في المدة التي يقضيها الفرد في المدرسة يجد أنها تفوق في المتوسط خمس (5/1) حياة الفرد وهذه المدة ستؤثر بالتأكيد اما سلبا أو ايجابا في تشكيل شخصية الفرد. ففي الوطن العربى على سبيل المثال - الذي رسخ أفكار العلمانية والقومية والاشتراكية هي المدارس. ففي المدارس تعلم الشباب على سبيل المثال عدم أهمية الدين الاسلام وامكانية فصله عن الحياة السياسية. فلقد وضعت قصدا "مادة الدين" في آخر اليوم الدراسي مع مواد الرياضة والرسم اشارة الي عدم اهميتها. ولقد كان يدرس هذه المواد رجال وان كانوا طيبون ومتواضعون الا أنهم كانوا ذو شخصيات ضعيفة جدا وليس لهم غاية الا التدريس. وفي المدارس تعلم الطلاب ان المنطقة يسكنها العرب وهي وطنهم ولا أحد سواهم. وتعلموا عدم احترم الاقوام الأخرى التى وجدت في المنطقة قبل العرب ...

ولكي لا يسيء فهمي, أخواتى واخوتى الكرام, فأنا لست من الذين يهمهم ما هي أصول الناس ولا من أين أتوا. فأنا عربي الجنس وفخور بذلك ولكن لقائي مع الناس هو لقاء أفكار وسلام وأحترام متبادل .... وهدفي في هذه الدنيا هو السعى من أجل تحقيق العدل والسلام. وان كل ما أريد قوله في هذا الصدد وبأختصار شديد هو الاهتمام بدور المدرسة وبنظام التعليم من أجل بناء المجتمع الراقي المتحضر ذلك المجتمع الذي يسعى لتحقيق العدل واحترام كل الناس بغض النظر عن جنسيتهم أو دينتهم أوأنسابهم ... ألخ.

3. النظراء:
أما المؤسسة الثالتة التي تعلب دورا هاما في التربية السياسية هي ما نسميه "بمؤسسة النظراء" والنظراء هم الاصدقاء أوالرفاق أو زملاء العمل أو الجيران. وجماعات النظراء هم المجموعات التى تشترك فى قيم أو تجارب مشتركة. وجماعات النظراء تتكون أو تتأسس نتيجة لأسباب عدة لعل من أهمها: العمل مع بعض, أو التعبد مع بعض, أو نتيجة لقضاء وقت مع بعض. وكلنا يعلم بأن للاصدقاء والرفاق دور كبير في تشكيل شخصية الفرد في المجتمع. فمن الاصدقاء يتعلم الفرد أشياء كثيرة. وخصوصا فى مرحلة الشباب. فالشباب فى العادة يتأترون ببعضهم البعض, وخصوصا فى الاشياء السلوكية والدوقية فان تأثير الاصداقاء والرفاق والزملاء أقوى من أى شىء اّخر. والغريب فى الامر ان بعض الناس يصدروا أحكامهم على الفرد بمجرد أنهم يعرفوا الجماعة التى يرافقها وذلك استنادا لقواعد شعبية وأمثلة شعبية مشهورة مثل: "قل لى من ترافق, أقلك من أنت." و"كل طير وجليسه." و"وين ما أتحط روحك تلقاها." ... والملفت للنظر اننا نجد هذة الامثلة حتى فى المجتمعات والثقافات الاخرى. فعلى سبيل المثال يقول الامريكان: "أنت الجماعة التى تحتفظ بها." ويقول المكسيكيون: "جودك وكرمك كجود وكرم الناس اللى حولك."

ومن الملفت للنظر أن تأثير هذه المؤسسة الاجتماعية سيكون أقوى مع بعض الافراد خصوصا الذين لم تتح لهم فرصة الذهاب الى المدارس ودلك لأن الاصدقاء والرفاق سيكون من أهم التجمعات في تشكيل شخصياتهم. فعلى سبيل المثال لقد أثبت علماء الاجتماع فى امريكا ان أكثرالشباب الذين يشتركون فى العصابات يقومون بذلك نتيجة لتأثير هذة المؤسسة الاجتماعية عليهم ....

ولعله من الطريف جدا والملفت للنظر هو ما لفت انتباهي وأنا أتصفح ما يكتبه بعض من اخواني الليبين الافاضل على الانترنت والذي يذل دلالة قاطعة على تأثير هذه المؤسسةالاجتماعية في تشكيل الشخصية الليبية في الداخل والخارج. ودعونا نأخذ بعض الامثلة للاستدلال على ذلك: (1) فيما يتعلق بالاسماء التي لها مدلولات ليبية لا يفهمها الا الذى عاشها وأذرك محتواها مثل: " ولد بحر" و"ولد بلاد" و"ولد الشط" و"جليانا" و"الاهلى." و"دار الماثورى" هذه الاسماء لها مدلولات اجتماعية وثقافية هامة خصوصا للذين يعتزون بها. وانا متاكذ من ان هؤلاء الاخوة الافاضل عندما أختاروا هذة الاسماء قد اختاروها للدلالة على ذكريات جميلة ومعانى سامية فى حياتهم. وفى ما يتعلق بالاسماء والالقاب فى مجتمعنا الليبي عموما, نجد أن تأتير "مؤسسة النظراء" لها تأثير واضح وقد يكون سلبي في بعض الاحيان. فأغلب أسماء العائلات الليبية على سبيل المثال أتت نسبة لأسماء حيوانات أوكعاهه في الشخص نفسه. وأنا لن أضرب أمثلة في هذا الصدد حتى لايسيء فهمي الاخوات والاخوى الافاضل. و(2) أما فيما يتعلق بتأثير مؤسسة النظراء على الهيكلية الاجتماعية نرى ان بعض المؤسسات وخصوصا الغير رسمية فى مجتمعنا قد أترث تأثير واضح على تفكير الليبين وخصوصا الشباب فعل سبيل المثال لقد كان دور ما سمي "بالبركة." والبراكة هى مكان يمكن أعتباره مؤسسة اجتماعية يقضي فيها بعض الشباب في بعض مناطق ليبيا وقتا للترفية والراحة على شواطى ليبيانا الحبيبه خصوصا فى وقت الصيف. وقد نقلها اليوم بعض الاخوة الى الانترنت وأصبحت مكان يلتقي فيه بعض ليبيوا المهجر للنقاش والدردشة ...

والخلاصة هنا هو ان تأثير النظراء من أهم التأثيرات في تشكيل الثقافة السياسية في المجتمع والاهتمام بها أمر ضروى من أجل النهوض بالمجتمع وتسخير طاقات أبناء الشعب وخصوصا الشباب وتوجيهها لتحقيق الهدف المنشود....

4. الاعلام:
أما المؤسسة الرابعة التي تلعب دورا هاما في التربية السياسية فهي مؤسسة الاعلام والصحافة. لقد أصبح دور الاعلام وبدون منازع من أهم الادوار فى تشكيل الشخصية وتوعية المواطن فى المجتمع. ففى الولايات المتحدة الامريكية يعتبرها بعض علماء السياسية والاجتماع على سبيل المثال "الاسرة الجديدة" لما لهذة المؤسسة من قوة تأتير على الاجيال وخصوصا الاطفال. تقول الاحصاثيات ان كل شخص فى الولايات المتحدة عندما يصل سن السادسة عشر (16) من عمره يكون قد قضاء ربع (4/1) حياتة (بعد أستتناء فترة نومة) فى مشاهدة التلفزيون. وان كل عاثلة أمريكية تقضى حوالى سبع (7) ساعات يوميا فى مشاهذة التلفزون (راجع: قيتلسن 1991, ص118). ولاشك انه بعد قدوم الانترنت فان دور الاعلام سيزداد أهميته ومسؤليته. ونتيجة لذلك فان مصطلحات ومفاهيم اجتماعية كثيرة ستتغير معانيها. فعلى سبيل المثال مفهوم اللقاء والدردشة ليس بالضرورة أن يشمل البعد الزمانى والمكانى. فقد أصبح من الممكن للفرد ان يلتقي مع أصحابه وأقاربه (واناس لا يعرفهم) في اماكن وأوقات مختلفة. ولقد أصبح من الممكن ايضا للفرد أن يقوم بكثير من الاعمال وهو جالسا في مكانه. وكل هذا سيقود حثما الى ايعادة النظر في الكثير من المفاهيم والمصطلحات الاجتماعية ومعانيها ....

5. المساجد والزوايا والمراكز الاسلامية:
في كل المجتمعات الاسلامية تلعب المساجد والزوايا دورا اجتماعيا وسياسيا هاما. فعبر التاريخ الليبي كان لهذه المؤسسات دورا طليعا يفتخر به كل مواطنا مخلصا لوطنه وشعبه. فمن الزوايا السنوسية على سبيل المثال تخرج العلماء وقادة الجيش وأبطال الجهاد وفي المساجد تتم التعبئة وثتقيف الجماهير. وفي المراكز الاسلامية يتم القيام بنشاطات اجتماعية وثقافية عديدة وأتخاد قرارت سياسية هامة. فعلى سبيل المثال فى الجامع الكبير فى مدينة غريان فى مطلع القرن العشرين وتحديدا عام 1920 انعقد أول مؤتمر وطنى فى تاريخ ليبيا المعاصره وقد كان من اهم قرارته اعلان أول جمهورية فى تلك المنطقه الا وهى: "الجمهورية الطرابلسية."

ثُالتا: ما هي أهم عمليات التربية السياسية؟
الى جانب وجود المؤسسات فى المجتمع لابد أن نعىء بأن عمليات التأهيل السياسي للافراد تتوقف في العادة على مدى استخدام والتفاعل مع هذة المؤسسات الموجودة في المجتمع والاستفادة منها. ان درجة ومدى تفاعل الفرد مع هذه المؤسسات هي التي ستحدد تشكيل شخصيته. فعمليات التأهيل هي العمليات المتعاقبة أوالمتداخلة التي تساعد على ايجاد شخصيات مختلفة. فقد تجد على سبيل المثال اخوان كان قد تربى في اسرة واحدة مختلفان كل الاختلاف. كأن تجد احداهما متدينا والاخرغير ذلك, او تجد أحداهما متعلّم في حين تجد الثاني غير متعلّما ... وهنا قد يسأل سائل: لماذا هذا الاختلاف؟ والاجابة ببساطة لان استفادتهما أو أستخدامهما لمؤسسات المجتمع مختلفة.

والسؤال هنا: ما هي أهم هذه العمليات التي بتداخلها وتفاعلها ستساعد على تشكيل شخصية الفرد في المجتمع؟ وهنا يمكن الاشارة الى أن هناك على الاقل أربع عمليات هامة في تهيئة الافراد واعتقد انها ضرورة ومن المهم على كل مجتمع يريد النهوض ان يهتم بهم. وهذه العمليات يمكن ان نطلق عليهم مصطلح: "الثأءات الاربع" وهم:

1. تعرض
2. تقليد
3. تعليم
4. تجربة

1. التعرض:
وهنا أقصد ان الانسان نتاج ما يتعرض له. فالبيئة التي يعيش ويتربى فيها سوف تلعب دورا مهما في تشكيل شخصيته. وبطريقة اخرى يمكن ان نقول بأن الانسان هو نتاج أكله, وشربه, واطلاعه, ومشاعره, واحاسيسه, ومعتقداته ... فعلى سبيل المثال الانسان الذي يتربى بين الكتب ويشجعه اهله على القراءة والاطلاع في صغره سوف يكون محبا للقراءة والكتابة عندما يكبر. على عكس الطفل الذي لم يرى كتابا ولم يشجعه اهله على القراءة والكتابة, ولهذا يقول المثل العربي: " من شبّ على شيء شاب عليه." ولعلنا نرى هذا واضحا فى مجتمعنا الليبى فقد يذهب الفرد لمناطق كثيرة فى بلادنا ولا يجد بها مكتبات عامة, ولا مراكز ثقافية, ولا نوادى اجتماعية. وحتى النوادى الرياضية كانت وللأسف مهتمة بالرياضة فقط ولا دور للثقافة الا دور محدود وترفيهى. فاذا كان هذا هو الحل فكيف يمكن أن نتقدم.

2. التقليد:
بمعنى أن الأنسان في عمومه هو مخلوق يميل الى التقليد وهو مخلوق مقلد. وعليه فالتقليد هو أحد الركائز الاساسية في تهيئة الأنسان. وبالتالى فأن أى مجتمع لا يهتم أو يحاول ان يخلط بين التقليد الضار والتقليد النافع - بهذه العملية سوف ينتج اناس يقلدون الغير ولا ينتمون الى المجتمع الا فى القليل. وبالتالى فلابد على المجتمع بالاهتمام بمفهوم التقليد وخصوصا القيم الايجابية مثل قيمة: "القدوة." وذلك لانها ضرورة لكي يمكن الاقتداء بها واتباعها خصوصا للذين ليس لهم خبرة ولا اطلاع. ان غياب القدوة الحسنة سيدفع الكثيرون وخصوصا الشباب لتقليد كل من هو منتصر وقوى. وعليه لابد من الاهتمام بمفهوم التقليد والتركيز على ما هو صالح ومفيد ومثمر, والتخلص من كل ما هو ضار وهدام.

3. التعليم:
هو من أهم العمليات فى بناء شخصية الانسان وتوظيفها لخدمة المجتمع. والمؤسسات التعلمية هى التى ستبنى جيل المستقبل وتنشر الثقافة بين المواطنين. وعليه فيمكن القول بأنه اذا صلح التعليم تقدمت الدولة, واذا فسد التعليم تخلفت. ومن المؤسف حقا أن عدو أمتنا قد أدرك هذة الحقيقة وسيطرعليها فى كل الدول التى استعمرها. وكان نتاج ذلك هو أنهم نجحوا فى السيطرة على ثروات أمتنا وعقولها. ومن المؤسف حقا أنه حتى بعد ان تركوا أوطاننا ومنحونا استقلالنا أتبعهم بعض المتقفون وقلدوهم فى كل شىء!!!
ولعل من أهم ما قام به الاستعمارهو تشجيع شعوبنا على اقتباس نظمهم ومناهجهم التعليميه. وكانت النتيجة ان اسسنا أنظمة همشت ثقافتنا وأبعدت ديننا وأضعفت لغاتنا. وتخرج من هذه المؤسسات أجيال تربت على فصل الدين عن الدوله وأبعاد العلم من الدين. والاسواء من كل هذا ان أصبح الغرب هو"قدوتنا" التى يجب ان نهتدى بها ونتبعها.

4. التجربة:
أما العملية الرابعة وليست بالضرورة الاّخير فهى عملية التجربة أوالمعاناة التى مر أو يمر بها الأنسان فى حياتة. فالانسان هو نتاج مجموع الاختيرات التى أخدها, والتجارب التى عاشها, والتحديات التى قاسها ... فشخصية الانسان الذى قضى سنين عديدة فى سجون الدكتاتور حتما ستكون نظرتة للحياة تختلف على نظرة أنسان قضاء كل تلك المدة فى المهجر وفى حياة سعيدة ومريحة. ومن جهة أخرى, فالانسان الذى ترعرع فى عائلة تؤمن باللجان الثورية وأستفادت أستفادة كاملة من حكم القدافى سيكون من الصعب علية ان يرى معاناة شعبنا وظروفة الصعبة بالرغم من أنة يعيش داخل ليبيا وبين هؤلاء الناس ...

رابعا: ما هى أهم التحديات التى تواجه من يريد اصلاح التربية السياسية؟
فى الحقيقة ان هناك تحديات عديدة تواجهنا اليوم فى أعادة بناء وتشكيل ثقافتنا السياسية وحيت اننى لا أستطيع التطرق الى كل هذة التحديات فى هذا المقال فسوف يتركز حديتى على تحدى واحد أرى أنة من أهم هذة التحديات التى تواجهة بلادنا هذة الايام. هذا التحدى هو ما سأطلق علية أسم: "التأهيل اللامتوازن." وهو التأهيل والتربية الغير متوازنة و التى ترتكز على جانب وتترك الجوانب الأخرى. كأن يتم الاهتمام بعملية التعليم ويترك العماليات والجوانب الأخرى. فالكثير من الحركات الاصلاحية والتنظيمات السياسية فى كل الوطن العربى هى تنظيمات وحركات غير متوازنة وذلك لأنها ترتكز فى تأهيلها لأعضائها فى العادة على جانب أو بعض وليس كل جوانب التأهيل السياسية.

الخاتمة:
دعونى أختتم هذا المقال بالتاكيد على ان التهيئه السياسية هى الطريق (أو الطرق) التى يستطيع بها المجتمع نقل تقافاته ومعتقداته ورموزه السياسية من جيل الى جيل. وهى العملية (أوالعمليات) التى من خلالها يتعلم المواطن معتقداته وأفكاره وتصوراته السياسية والاجتماعية والاقتصادية, ومن ثم يستطيع تشكيل وجهة نظرة بناء على هذة المعتقدات والافكار.

ان عملية التهيئة هى عملية مستمرة مع الانسان من اليوم الذى ولد فيه الى يوم مماته. وبناء على هذا يمكن القول بأن الانسان طول حياته هو أداة تعليم وتعلم. أو بمعنى اّخر فهو عملية طلب وعطاء. فالانسان يقضى طول حياتة فى طلب العلم والمعرفة والرزق, وفى نفس الوقت ومن جهة اخرى يقضى الانسان جزء من وقته فى تعليم الغير ما تعلمه ...

كل هذا يتطلب الاعداد والاستفادة من كل أدوات وعمليات التهيئة السياسية ... وهذا قد يكون فى شكل أفراد: كالوالدين, والاساتدة, والاصحاب, ورفقاء العمل. وقد يكون عن طريق الاستفادة من المؤسسات: كالاسر, والمدارس, والنوادى, والمساجد, والقبائل, والعشائر, والنقابات المختلفة.

وختاما أقول مرة أخرى اذا كنا نريد بناء مجتمعا حضارى ومتقدم:

• فلابد من الأهتمام بالاسرة لانها هى الاساس. فبدون الاسرة القوية المتماسكة والمتعلمة لا يمكن ان ينهض المجتمع.

• ولابد من الاهتمام بالتعليم وتشجيع أبناءنا عليه. ومحاولة تشجيعهم للتخصص فى المجالات التى سيستفيد منها وطننا فى المستقبل.

• ولابد من التأكيدعلى ضرورة اعادة اصلاح النظام التعليمى وترتيب هيكليتة ومناهجة. بمعنى نريد مناهج تربط دولتنا بديننا, وديننا بالعلم, والعلم بالواقع.

• ويجب ان تكون هذة المناهج نتاج مؤسسات مستقلةعلى نظام الحكم والطبقات الحاكمة. فاستقلالية العلماء من السلطه شرط ضرورى من شروط تقدمنا.

• ولابد من الاهتمام بمؤسسات النظراء التى ستوفر للشباب فى المجتمع الفرص والامكانبات للتعارف والتاتير فى بعضهم البعض بالطرق الايجابية.

• ولابد من الاهتمام على سبيل المثال - بكل المكتبات العامة, والمراكزالثقافية, والنوادى الاجتماعية والرياضية والمؤسسات الترفيهية من أجل خدمة الشباب فى المجتمع.

• ولابد من الاهتمام بالاعلام والصحافة والعمل من أجل تسخيرهما لخدمة المواطن وتقديم كل ما يطلبة بأسلوب تنافسى محترم وشريف.

• وان يتصف اعلامنا وصحافتنا بالقوة وألايجابية فى سبيل تأكيد الحرية ونشر العدالة والمساهمة فى بناء مجتمعا متقدما وحضاريا وحر.

• ولابد أن تتحول مساجدنا والزواينا الى مراكز سياسية واجتماعية وثقافية وحتى اقتصادية.

وبناء على كل ما تقدم فلابد:

1. ان نهتم بكل (وليس مجرد بعض) مؤسسات التهيئة السياسية فى المجتمع ...

2. أن نسعى من أجل أيجاد تخطيط استراتيجى هادف تحدد فيه الاهذاف وتعرف فية الادوات والوسائل ...

3. أن نسعى الى توحيد كل الجهود والآراء من أجل تكوين:

• ثقافة نوعية وراقية...

• ثقافة تقوم على الاحترام والعمل...

• تقافة تساهم فى اعادة بناء الانسان المسلم الحضارى الجديد ...

• ثقافة تؤمن بالاستفادة من احسن ما قدمه العقل الانسانى وفى نفس الوقت تتمسك وتعتز بأحسن ما عندنا ...

• وثقافة تربى لنا الانسان الذى سيعيد لأمتنا مكانتها الريادية ودورها القيادى بين الامم باذن الله ...

فالى الامام ... و ... الله المستعان.

د. محمد بالروين
berween@hotmail.com
________________________
“American Government.” 2/e. By: Alan R. Gitelson, Robert L. Dudley, and Melvin Dubnick. Boston: Houghton Mifflin Company, (1991). P. 118.

No comments:

Post a Comment

أخر مقالات نشرتها