Tuesday, February 04, 2020

البدو و الحضر

 البدو و الحضر:
وجهان لعملة واحــدة هي "المدنية"

د. محمــد بالرويـن
البدو والبداوة       
البدو هم أقوام ينتقلون من مكان إلى آخر بمجرد ان يتوقف المكان الذي تركوه عن تقديم حاجاتهم الضرورية، وخصوصا الماء والكلأ للبدو المقيمين في الصحراء. وهم أصحاب الشعر، وفصاحة الكلام، والأمانة، والمروءة، والكرم، والشجاعة، والإيثار وغيرها من القيم والصفات الحميدة، وهم أقوام يعيشون على الفطرة التي خلق الله الانسان عليها، وعلى بساطة الحياة والاعتماد على الذات. ويُفضل البدو السكن في الخيم لسهولة فكها وإعادة بنائها مرةً أخرى، كما هو الحال بالنسبة لحاجياتهم وأمتعتهم فهي ضرورية وقليلة حتى يسهل عليهم نقلها من مكانٍ إلى آخر. وعليه فثقافة البدو ترتكز، في الأساس، على مبادي البساطة والترحال وعدم الاستقرار. وهنا لابد من الإشارة الي ان البدو ليس هم مجرد سكان الصحراء، كما يعتقد البعض، وانما هم كل من يحمل الثقافات التقليدية، والحقيقة ان هناك بعض الحضر الذين يسكنون في المدن، هم في الحقيقة بدو في عقليّتهم وسلوكهم وتصرفاتهم ومعاملتهم.

أما البداوة فهي أسلوب ومنهاج حياة تقوم على علاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية مميزة، وقائمة على قيم واعراف وعادات وتقاليد شفوية متوارثة عبر التاريخ، وعلى نظرة فردية للعالم والحياة. ويتميز سكان البداوة ببساطة ومحدودية معرفتهم بالأمور والقضايا العامة، وبذلك تجدهم دائما يتمسكون بعاداتها وتقاليدهم واعرافهم. ويمكن القول ان جُل سلوكيات وأفعال وممارسات البداوة هي قيم جيدة وحميدة، واخلاقيات سامية، ومواقف مُشرفة. وهي من جهة اخري، حياة تتميّز بصعوبة العيش، وقلة الزاد، وكثرة التنقل، والترحال، وعدم الاستقرار. ومن المؤسف ان الكثيرين من العوام وبعضاً من نخب الحضر، هذه الأيام، يحاولون اختزال البداوة في القبلية وربطها بالعصبية المقيتة، واعتبارها مؤسسة تقليدية قديمة يجب التخلص منها من اجل الوصول للحضارة والتمدن! وهنا أجد نفسي متفق مع ما يقوله الاستاذ جعفر حسن في هذا الشأن بان ".. كثيرا ما يخلط الناس في كلامهم عن البداوة بينها وبين القبلية، والحقيقة أن القبلية نظام اجتماعي لتجمع البشر، والنظام القبلي لا يساوي البداوة مطلقا، فالقبلية ظاهرة اجتماعية شاملة للتكوين البشري قبل وأثناء الحضارة ..." (جعفر حسين, 2007). وعليه فالقبيلة هي مؤسسة اجتماعية، كغيرها من المؤسسات الاجتماعية الآخرين، يمكن توظيفها من الصالحين للقيام بالخير، أو استغلالها من الانتهازيين لتحقيق مآربهم الشخصية. 
أهم الخصائص الإيجابية للبدو                                               
 وهنا لابد من الإشارة الي ان للبدو والبداوة خصائص ومزايا إيجابية عديدة للعل من أهمها الآتي:
1. البدو والبداوة أقرب للفطرة والبساطة من الحضر والحضارة.
2. الترابط الاجتماعي بين البدو والبداوة أقوي وأقرب منه بين الحضر وفي الحضارة.
3. البدو أكثر استعدادا لتحمل قساوة الحياة وحرارة وبرودة الصحراء من الحضر.
4. بينما يعتمد البدو على ضروريات الحياة، يهتم الحضر في أحوالهم وعاداتهم على الكماليات والرفاهيات.
5. واجب الضيافة عند البدو أمر مهم وعظيم، واكرام الضيف صفة ملازمة لأهل البداوة وركن أساسي في عاداتهم وتقاليدهم.
6. يقول ابن خلدون بأن "أهل البدو أقرب للخير من أهل الحضر." وفي هذا الصدد يقول: خدوا الخلق الرفيع من البوادي ** فإن النفس يُفسدها الزحام 
وكم فقدت حلالتها قصور** ولم تفقدُ مروءتها الخيام
7. البداوة بالنسبة لابن خلدون هي العمود الفقري لبناء الدول، لأن البدو أشداء وسريعو الحركة والاستجابة والرد. 
الحضر والحضارة                                                          
وفقا لقاموس لسان العرب-  البدو هم ضد الحضر، والبادية خلاف الحاضرة سواءً  من العرب أو سواهم (قاموس المعاني، 2014.( بمعني ان الوجه الآخر للبداوة هو العمران (كما يسميه ابن خلدون), أي الحضارة القائم علي الاستقرار والثبات والوفرة, وعلي العلاقات القائمة علي قواعد وقوانين في اطر الدولة الحديثة. ويعتبر علماء الثقافة السياسية المعاصرين ان اساس الحضارة هو ما يُعرف بــ "الثقافة المدنية،" التي تتميز بمعايير كثيرة لعل من أهمها "قبول المواطنين بسلطة الدولة "، "الإيمان بالمشاركة في الواجبات المدنية", "التداول السلمي علي السلطة" و "حل النزاعات بالطرق السلمية." ولقد تم استخدام مصطلح "الثقافة المدنية" لأول مرة عام 1963, في كتاب قيبرل اللاموند وسيدني فيربا، والذي كان بعنوان: "الثقافة المدنية: السلوك السياسي والديمقراطية في خمس دول."

ولعله من المناسب ان أشير هنا أيضا بانه قد يعتقد البعض أن الهوية البدوية تقتصر على البدو الرحل في الصحراء فقط، ولكن هذا قطعاً ظن خاطئ؛ لأن البداوة قبل أي شيء آخر هي "حالة عقلية" و "ظاهرة نفسية" ترتكز بالدرجة الاولي على الشعور الدائم لشخص ما بالغربة، وضعف الانتماء، وعدم الاستقرار، سواء ان كان هذا الشخص من البدو او من الحضر. فمثلا في العصر الحديث، يمكن القول ان اللاجئ، والمهاجر، والمغترب، والمشرد، وكل من ليس له عمل مستقر في المدن، هم في الحقيقة يعيشون هذه الحالة العقلية والظاهرة النفسية. وعلى سبيل المثال ايضا، نجد اليوم ان الكثير من العمال وبعض الموظفين في المجتمعات الصناعية والتكنولوجية في الدول الغربية مُضطرين الي التنقل وبسرعة من عمل الي آخر، ومن وظيفة الي آخري، بحثا عن أعمال ووظائف جديدة تناسب امكانياتهم وتخصصاتهم وتطلعاتهم. فقد أشارت الاحصائيات السكانية في الولايات المتحدة الامريكية لعام 2010، ان الباحثين عن العمل والوظائف، وخصوصا في القطاع الخاص، يتنقلون في المتوسط من سبع (7) الي عشر (10) وظائف في أماكن مختلفة خلال حياتهم الوظيفية. فهل يمكن ان نطلق على هذه الشريحة من العمال الحضر الذين يقيمون في المدن على انهم بدو؟! وهل يمكن اعتبارهم في الحقيقة كالبدو الرُحل في الصحراء الذين يبحثون عن الماء والكلأ؟ الا تنطبق عليهم ثقافة بدو الصحراء بركائزها الأساسية الثلاث - التنقل والترحال وعدم الاستقرار؟ في اعتقادي المتواضع، نعم انهم "بدو", ولكنهم يمثلون الوجه الآخر للبداوة -- الا وهو "البداوة المعاصرة."      

من كل ما تقدم يمكن ان نستخلص ان الشعور بالبداوة في هذا العصر الرقمي، قد أصبح ظاهرة اجتماعية لا يمكن أخفاها أو تجاهلها، وحالة عقلية خطيرة لم يهتم بها المسؤولين في هذه الدول بعد! وهذا الوضع سيقود حتما، في كثير من الدول الحديثة الي ضعف الهوية الوطنية، وانعدام الانتماء عند الكثير من هؤلاء العاملين والمهنيين في داخل هذه الدول، وأصبح "البدوي المعاصر" ظاهرة تقود في كثير من الأحيان الي المزيد من العزلة واللامبالاة وعدم الاستقرار. وعليه فعلي كل من يريد تأسيس دولة حديثة مدنية ديمقراطية وعادلة، ان يهتم بهذه الشريحة من الشعب، وان يسعي للعدالة والمساواة بين كل المواطنين سوأ كانوا في الصحاري او في القري او في المدن. 
الخاتمة                                                                               
 باختصار شديد، يمكن ان نستخلص مما تقدم الاتي: 
         1. ان الحضر هم مجموعات من البدو الذين فضلوا الاستقرار والتطور، بينما أختار البدو الرحل التمسك بتقاليدهم وعاداتهم القديمة، واختاروا ان يعيش أغلبهم حياة متنقلة وغير مستقرة في مكان واحد بعينه.
          2. ان البدو في الصحاري، في الحقيقة، لا يعارضون الحضر (كما يعتقد البعض)، وانما هم الجزء المُكمل لهم.  
          3. الاعتراف بضرورة وجود البداوة لقيام وتأسيس الدول الحديثة. وفي هذا الصدد يقول ابن خلدون (1332 – 1406 م) في مقدمته بأن: "... البداوة والبدو لهم علاقة قوية في انشاء الدول الجديدة، وفي إحياء الأمم والشعوب...." ويذهب ابن خلدون الي ابعد من دلك باعتقاده أن "البداوة هم أصل الحضارة." بمعني ان البداوة هم أصل الحضر - أي ان أجداد الحضر (أي سكان المدن) كانوا أيضا بدو في وقت سابق قبل أن ينتقلوا للمدن.
          4. الايمان بان البداوة ظاهرة اجتماعية مستمرة عبر تاريخ الدول ومراحل نموها وتطورها. وفي هذا الصدد يقول الاستاد جعفر حسن بانه "... لم يتم إثبات وجود لحظة واحدة تاريخية كانت فيها القبائل العربية تعيش حالة البداوة بشكل مطلق، بل كانت البداوة دائما على أطراف المدنية (الحضارة)"(جعفر حسين, 2007).
          5. ان التمسك والمحافظة على الحياة البدوية في أوطاننا سيساعدنا على فهم تاريخنا وأصولنا، وأيضا فهم طبيعة حضارتنا وتنوعنا وما تمخض عنهما من ثقافات ولغات وتنوع بين القبائل والشعوب. ان الحياة البدوية هي جزء لا يتجزأ من أي حضارة ناجحة ومتطورة. وان الحضارة والبداوة هما نمطان وسلوكان قد نجد كليهما معا في البداوة والحضارة. ويصف الدكتور يحيي جبر هذه الظاهرة كالآتي: "... الحضارة عطاء مادي، والبداوة عطاء أخلاقي، وهما متضادان من جانب، وطرفا ممتد من جانب آخر، يتداخلان ويتصلان، والخير في التوسط بينهما، والأخذ من كليهما باعتدال. وفي عدم تحقيق ذلك، يكمن مشكل العرب في العصر الحديث...." (يحيي جبر, 2009). وتأكيدا على تكامل البدو مع الحضر، يصف الاستاد محمد الأمين الواقع الليبي كالآتي: "... أن التفاعل بين الساحل والصحراء قد كان نعمة على بلدنا ولم يشكل في يوم من الأيام عامل عرقلة أو تعطيل لأي عمل خيّر أو ظاهرة غير إيجابية في ليبيا،" (محمد الأمين , 2019).
         وفي الختام وايمانا بكل ما سبق ذكره، يمكن التذكير بالآتي:
         1. على الانسان المتحضر وكل من يريد تأسيس دولة حديثة مدنية ومتقدمة ان يرفض نظريات الاستعلاء والازدراء للظاهرة البدوية، لان ذلك يتناقض مع كل ما يسعي لتحقيقه. ولابد ان نعي بانه ليس كل البدو أعراب ولا همج ولا جهلة ولا رُعاع كما يحاول بعض الحاقدين والجاحدين تصويرهم.
         2. علينا ان نعي بان مهاجمة الظاهرة البدوية، خصوصا وأخوننا البدو الشرفاء، هي بدون شك مؤشر على "الافلاس القيمي"، وان البيئة التي نعيش فيها هي بيئة تعيش ما يمكن تسميته بــ "ظاهرة القابلية للفساد"، أي بيئة تفتقد لأقل معايير المناعة المطلوبة والكافية لمحاربة القيم الفاسدة والعادات الضارة لقيام الدولة والمحافظة على المجتمع. والمؤسف انه في هذا النوع من الثقافات يسود القول المأثور "السيئة تعم والحسنة تخص،" وتصبح هذه المقولة هي القانون السائد بين الناس، وتغيب القوانين الحقيقية لبناء الدولة وتنهار معالمها. وعليه فالمطلوب الا نتمسك ونفتخر بالقيم والعادات والتقاليد والافعال السيئة سوى ان كانت من الحضر او من البدو. ويجب الا نرفض كل ما هو خير سوى ان كان من البدو او من الحضر.
        3. علينا ان نعترف بان عظمة الشعوب تكمن في اختلافها وتنوعها وخصوصا بين بدوها وحضرها، وشرقها وغربها، وجنوبها وشماله. ويجب ان نؤمن بان القيم البدوية الحقيقية ممزوجة في أعماق تجمعاتنا المدنية، وانه لا يمكن، باي حال من الأحوال، الاستغناء عنها. وان نؤمن أيضا بان البدو والبداوة لن تكون أدوات عرقلة للنمو والتقدم في المجتمعات الحديثة التي تريد ان تتمدن وتنمو وتزدهر.
         4. علينا ان ندرك بان ازدرا البدو او البداوة، أو التقليل من شأنهم، أو وصفهم بما ليس فيهم، هو قطعا دليل على الجهل بحقائق التاريخ، وعلامة من علامات الحقد على أهل البداوة الشرفاء والكرماء. فيكفي البدو شرفا انهم أهل الفصاحة في الكلام، والشجاعة في الميدان، وغيرها من الصفات الحميدة والأخلاق النبيلة.
         5. علينا ان ندرك أيضا ونعترف بان هناك العديد من النواقص والعيوب والصفات السيئة والذميمة في الثقافات البدوية، والمهم هنا الا نُعمم هذه النواقص والعيوب على كل البدو والبداوة. فعلي سبيل المثال، يجب ان نعي بان سيئات أعراب الجاهلية في تلك الفترة من التاريخ لا علاقة لها بالبداوة والبدو عموما، وإنما هي نتاج مرحلة جاهلية، كانت في القري أبرز منها في البادية التي كانت تعيش في الصحراء في تلك الفترة.
         6. يجب الابتعاد على استخدام أسلوب التفضيل في المقارنة بين الحضر والبدو. وان نترك ذلك لكل مواطن في داخل الوطن بان يختار نمط الحياة والعيش التي يرغب فيها. بمعني آخر يجب الا يكون هناك تفضيل للحضر على البدو، ولا للبدو على الحضر، وذلك لانهما – في اعتقادي المتواضع – هما الجناحان اللدان لا يمكن للدولة الحديثة (خصوصا فيما يُعرف بالوطن العربي) ان تطير بدونيهما. وفي هذا الصدد يقول الدكتور يحيي جبر"... إذا كان الاستقرار والتطور والعمران مدخل البشرية إلى الحضارة المادية، فإن الترحال والتنقل والبداوة مدخلها إلى حضارة القيم والأخلاق والمثل،"(يحيي جبر, 2009). هذا يعني انه كلما أستطاع الانسان الجمع بين المادة والقيم الحميدة، كلما تطور وتقدم وازدهر، والعكس صحيح، بمعني كلما أهمل الانسان الجانب القيمي والأخلاقي سيقود ذلك حتما إلى التخلف والحضيض. وبالتالي فعلي الجميع ان يتذكر باننا لن نستطيع بناء الوطن الذي نحلم به جميعا، بدون البدو والحضر معاً، بمعني اخر ضرورة لقاء وتزاوج التطور والعمران مع القيم والأخلاق لقيام الدول وتقدمها. وبالتالي يجب ان ننظر للبدو والحضر على انهما وجهان لعملة واحــدة هي "المدنية" ... فهل هذا في الإمكان يا أحباب؟ ادعو الله عز وجل ان يكون ذلك...
وفي الختام لا تنسوا يا احباب ان هذا مجرد راي، 
فمن أتي براي أحسن منه قبلناه، 
ومن أتي براي يختلف عنه احترمناه. 

والله المســـتعـان.

د. محمـد بالروين
berween@gmail.com
==============
المراجع:
قاموس المعاني، معنى بدو، 29 يناير 2014. نسخة محفوظة 11 مارس 2016 على موقع    واي باك مشين.

العلامة ولي الدين عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (2004)، مقدمة ابن خلدون (الطبعة الاولى)، دمشق: دار يعرب، صفحة 244. بتصرّف

أ.د. يحيى عبد الرؤوف جبر, العرب بين البداوة والحضارة, مجلة الثقافة العربية/ ليبيا 1980,  مايو 30, 2009. جامعة النجف الوطني,                https://blogs.najah.edu/staff/yahya-jaber/article/article-116

جعفر حسن، البداوة؟ 21 مايو 2007, نشرت في ديوان العرب،    https://www.di wanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=9128

محمد الأمين، تفسخات الحرب الليبية: لمصلحة من الفرز الجديد لليبيين على أساس "البداوة" و"الحضر"؟ 12 ديسمبر 2019 , إيوان ليبيا،

http://ewanlibya.ly/news/news.aspx?id=360941

قيبرل اللاموند وسيدني فيربا (1962):
Almond, Gabriel A., and Sidney Verba. 1963. The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy in Five Nations. Princeton, NJ: Princeton University Press.


أخر مقالات نشرتها