بقلم: د. محمد بالروين
حاولت فى
الجزء الاول من هذا المقال تسليط بعض الضوء على معني وأسس المنهجية، وفى
الجزء الثاني ناقشت أهم عناصر وأدوات المنهجية. وفي الجزء الثالث ذكرت أهم
أساليب المنهجية. وفي هذا الجزء الرابع (والآخير) سأعرض أهم خطوات المنهجية
العلمية.
سادسا: خطوات المنهجية:
لعلنا نتفق
بان كل فكرة خلال القيام بدراستها دراسة علمية لابد ان تمر – في أغلب
الاحيان - بست مراحل هامة هى: التعريف , ثم الفرضية , ثم التحقيق , ثم
البرهان , ثم الاستنتاج , وآخيرا التعمييم.
1ـ التعريف
ان أول خطوة
يقوم بها كل باحت علمي هى إختيار المشكلة أوسؤال. وهذا الاختيار هو ما يمكن
ان نسميه بـــ 'مشكلة أو سؤال البحت.' بمعني لابد على الباحت من تعريف
المشكلة التي يريد حلها اوالسؤال الذى يرغب في الإجابة عليه. وعلى كل باحت
علمي لكى يختار مشكلة البحت الاختيار الصحيح لابد ان يقوم بالإجابة على
مجموعة من الاسئلة لعل من أهمها: (أ) تحديد الإمكانيات المتاحة له قبل أن
يختار مشكلة البحت؟ والإمكانيات هنا تشمل بالتحديد كل ما يحتاجه الباحت من
مال ووقت وجهد. (ب) محاولة الإطلاع علي كل (أوعلي الاقل أهم) الدراسات
والابحات المنشورة حول هذا المشكلة. أي محاولة معرفة طبيعة وكمية المعلومات
المتوفرة فى هذا الموضوع. (ج) محاولة تجميع المعلومات اللازمة لدراستة من
كل المصادر المتاحه له دون إسثتناء (د) القيام بالصياغة الدقيقة والواضحة
لمشكلة البحت وتحديد العناصر الرئيسية التى تتكون منها المشكلة. و(ه) تحديد
الدوافع الرئيسية التى دفعت بالباحت لإختيار هذه المشكلة وما يرجو تحقيقه
من وراء هذا البحت. وبإختصار شديد يمكن القول بان تعريف المشكلة التعريف
الصحيح والدقيق هو أمر أساسي للقيام باي بحت علمي وذلك لان كما يُقال – في
علم مناهج البحت - بأن تعريف المشكلة هو نصف الحل.
2ـ الفرضية
بعد تعريف
المشكلة أو وضع السؤال العلمي على الباحت أن يقوم بوضع فرضية (أوفرضيات)
بحته. يُعرف الدكتور أحمد بدر الفرضية على انها 'تخمين أوإستنتاج يصوغها
ويتبناها الباحت مؤقتا لشرح بعض ما يلاحظه من الحقائق والظواهر ولتكون له
مرشدا فى البحت والدراسة التى يقوم بها'(للمزيد راجع: بدر , 1973 , ص 88).
بمعني ما هو الشىء الظنّى أوالخيالي الذى يريد الباحت إثباته أوالتحقق من
صحته , اوالسؤال العلمي الذي يواجهه ويريد الاجابة عليه , أوالمبدا الاولي
الذى يُسلم الباحت به وبصحته ولا يستطيع البرهان عليه بطريقة مباشرة ويتطلب
البحت والدراسة للوصول للنتائج العلمية المُقنعة. وبمعني آخر يمكن إعتبار
الفرضية علي إنها إقتراح لحل مُسبق لمشكة البحت ونوع من أنواع التقديرات
أوالتنبؤات العلمية للمشكلة المطروحه. ويطلق عليها في بعض الاحيان بـــ
'تخمين المتعلم أوالمتقف.'ويعتبر العالم الفزيائي ألبرت أنشتاين (1955 –
1879) هذه الخطوة من أهم خطوات البحت العلمي وقال في هذا الصدد قولته
المشهورة أن 'الخيال أكثر أهمية من المعرفة.' ولعل من أهم الشروط التي يجب
توافرها في وضع الفرضية: (أ) إشتراط ان تكون واضحة وعملية. و(ب) إشتراط ان
تكون قابلة للإختبار وذلك لان أي سؤال لايمكن الإجابة عليه أوإختباره وفحصه
لا يمكن إعتباره فرضية علمية.
3ـ التحقيق
بعد ان يُعرف
الباحت مشكلته ويجمع معلوماته ويحدد فرضيته, لابد ان يقوم بإجراء كل
التحليلات والاختبارات والفحوصات اللازمة والمناسبة والممكنه للوصول الي
النتائج التى قد ثتبت صحة فرضيته أوربما ثتبت عكس ذلك. بمعني إن العلم ليس
مجرد عملية أوعمليات تجميع وتصنيف المفاهيم والافكار حول ظاهرة معينة
(بالرُغم من أهمية ذلك) ولكن العلم في الاصل هو منهج أومناهج تحليل وتحقيق
وكشف أسرار ومكونات الأشياء من أجل الوصل للحقائق والقوانين العامة.
4ـ البرهان
كل العلماء
والباحتين وفي كل المجالات متفقون علي ان المنهجية العلمية تقوم بالدرجة
الاولى على طلب الدليل والبرهان. ولهذا نجد الاسلام دائما يتحدي كل طلاب
العلم لعرض براهينهم للاستدلال بها واثبات مصداقيتهم. وفي هذا الصدد يقول
الله تعالى'قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين'(البقرة 111). وهذا يعني
ببساطة إن كل باحت ليس له دليل ولا برهان علي ما يقول يعتبر كلامه مجرد رأي
يؤخد منه ويترك. وعليه يمكن القول إن الحجج التى يسوقها الباحت والادلة
التى يستدل بها يجب ان تقود الي إثبات الحقائق التي يدعي الباحت انه توصل
اليها. وإنطلاقا من هذا الفهم تجد سلفنا الصالح يقولوا بان إجتهاداتهم في
الكثير من القضايا ما هي الا مجرد رأي يعتقدوا انه صواب. وفى هذا الصدد فقد
روي عن الامام ابن حنيفة رحمه الله انه كان دائما يقول 'هذا الذى نحن فيه
راى لا نُجبر أحد عليه. فمن كان عنده شىء أحسن منه فليات به' (راجع: بطاينة
1992 , ص 101).
5ـ الإستنتاج
بمعني لابد
على الباحت من إستخلاص كل النتائج مهما كانت ويجب الا يكون إنتقائى ياخد ما
يوافق رايه ويثبت فرضيته ويرفض أويتجاهل ما يتعارض مع ذلك. وبإختصار شديد
يمكن القول بان الاستنتاج هو عباره عن عملية عرض وتلخيص كل نتائج الباحت
وتجاربه بمنهج منطقي وموضوعي ودقيق.
6ـ التعميم
هو ببساطة
أخد الاستنتاجات التى توصل اليها الباحت ومحاولة تعميمها واعتبارها نتائج
يمكن تطبيقها على جميع الحالات والظواهر المشابهة. والحقيقة التي لا جدال
فيها عند كل العقلاء هي إن عملية التعميم من حيت المبذأ هي ضرورة من
ضروريات البحت العلمي من أجل الوصول الى الحقائق والقوانين الكلية. ولكن
لابد هنا من التدكير بضرورة تقييد هذه العملية بالشروط والافتراضات التى
قام عليها البحت. بمعني لابد من الإعتراف بانه لاوجود لعملية تعميم مطلقة.
ولكى تطبق هذه العملية بإسلوب علمي مُفيد لابد من توفر مجموعة من الشروط
لضبطها لعل من أهمها: (أ) عدم التسرع: بمعني لكي يكون التعميم سليم لابد أن
يعتمد الباحت على أدلة كافية وتجارب عديدة تم الوصول اليها حول نفس
الظاهرة تُؤكد ما وصل اليه الباحت. والحقيقة ان غياب الادلة الكافية
للتعميم هي من أكثر أسباب التعميم الخاطيء. فما ان يجد بعض الباحتين على
سبيل المثال بعض الأدلة والشواهد علي شىء ما يقوم به بعض الافراد من مجموعة
ما حتى يقوموا بتعميمه وكأنه سلوك أوتصرف يقوم به كل أفراد المجموعة. و(ب)
إدراك الخصوصيات. بمعني إدراك الباحت ومعرفته لبعض الفروق والاختلافات
الطبيعية والجوهرية في كثير من القضايا والظواهر وبالتحديد التى تبدو
متشابة.
الخاتمة
لعل من
المناسب ان أختم هذا المقال بالتأكيد علي (1) ضرورة التسليم بأن كل العلوم
تستخدم وتُطبق اليوم المنهجية العلمية لإختبار فرضياتها وإثبات نظرياتها.
(2) ضرورة قبول ظاهرة تتعدد المناهج والمسالك والطرق العلمية فى فهم وتحليل
الاشياء. (3) ضرورة الاعتراف بأن من أهم شروط المنهجية العلمية هو الامانة
القائمة علي أساس الموضوعية والتفكير النقدي والمستندة علي الحجج والقرائن
التى يستدل بها الباحت في دراسته. (4) ضرورة ان يكون الباحت من أهل العلم
والإختصاص وأن يكون علي دراية بأساليب البحت في تخصصه وان يكون قادرا علي
إستخدام الأدلة وتقديم البراهين وان يكون مستعد لتفنيد حجج المخالفين له
بحجج يعتقد انها الصواب. (5) ضرورة ان يكون الباحت العلمي عادلا فى تعاطيه
مع موضوع بحته وأن يتحلي بالإنصاف والتجرد والإبتعاد عن الإنتقائية في
الإستدلال. (6) ضرورة إبتعاد الباحت عن عملية التعميم المطلقة وان يُقيد
نتائج دراسته بالإفتراضات والشروط التى قامت عليها. و(7) ضرورة إستعداد
الباحت لقبول نتائج دراسات الآخرين اذا أثبتوا له عكس ما يؤمن به...
وآخيرا
وبناءا علي كل ما تقدم لا أملك الا أن أدعو كل الباحتين عن الحقيقة ان يعوا
هذا العلم وان يدركوا بان أعتماد وإستخدام المنهج العلمي في التفكير
والدراسة اليوم ليس مجرد أمر مهم فقط ولكنه ضرورة من ضروريات الحياة
المعاصرة وشرط من شروط التقدم والنهوض. ولا بديل عن المنهجية العلمية التي
تقوم علي أساس الكفاءة والموضوعية والتفكير النقدي. وليكن شعار كل الخيّرين
في هذا الشأن قول الله تعالي 'قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين'(البقرة :
111).
ختاما يا
أحباب مرة آخر ... لا تنسوا إن هذا مجرد راي فى كيف نحاول جميعا الوصول
للحقيقة بغض النظر عن إختلافاتنا ... أدعو الله عز وجل ان اكون قد وفقت.
والله المستعان.
د. محمد بالروين /
berween@hotmail.com
_______________________
المراجع:
** محمد ضيف
الله بطاينة (1992) 'المنهجية الاسلامية ... نظرة الى الفقه.' مقالة فى
كتاب: 'المنهجية الاسلامية والعلوم السلوكية والتربوية - الجزء
الثانى.' المعهد العالمى للفكر الاسلامى,. صى 111.
** د. أحمد بدر (1973) 'أصول البحث العلمى ومناهجه. الكويت: وكالة المطبوعات.
No comments:
Post a Comment