Thursday, May 10, 2018

الجعجعيـون

الجعجعيـون

د. محمـد بالروين

"جعجع" هو الشخص الذي يرتفع صوته بالغوغاء والوعيد والتهديد في القضايا والأمور التي لا يستطيع القيام بها ولا حتي – في اغلب الأحيان -  إدراكها. والأسوأ من ذلك انه لا يستطيع ان يقوم أو يُجيد أي شيء آخر الا الصُراخ! بمعني آخر هو شخص كثير الكلام , قليل العمل, يعلو صوته بالوعيد والتهديد, ويعلم يقيناً انه - في الواقع - لا يستطيع إنجاز أي شيء... وفي جملة واحدة هو شخص: يتكلم كثيرا ولا يقول شيئاً.

انطلاقا من هذا الفهم يمكن القول إن "ظاهرة الجعجعيون," والمنتشرة هذه الايام للأسف في كل ربوع الوطن, هي حالة صوتية متعالية وصراخ وضوضاء وثرثرة مُتعمدة, يمارسها مجموعة من النُخب والسياسيين والمسؤولين في الدولة كوسيلة وحيدة لتسيير أمورهم, وتحقيق أهذافهم ومصالحهم الآنية!

والحقيقة التي لا جدال فيها, ويجب ان نعيها جميعا, هي انه عندما تنتشر هذه الظاهرة السيئة والخطيرة في مجتمعنا, فأن أول ما يضيع من القيم هو المنطق والحكمة والمقدرة علي الوصول لحلول عملية ومُفيدة. وعلينا ان نتذكر بأنه كلما أرتفع صوت الجعجعة, وأزداد عدد الجعجعيون, يتبخر العمل, وتتلاشي الانتاجية, ويصبح من المستحيل الوصول لأي نتائج يمكن ان تقبل بها كل الأطراف! ويصبح الكل يتكلم ولا أحد يسمع! ويكون المنتصر من بين هؤلاء هو الذي أعلاهم صراخاً وأكثرهم ثرثرة. 

وإنطلاقا من ذلك يمكن القول ان "ظاهرة الجعجعيون" هي حالة سلبية ضارة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معني , وفي نفس الوقت, هي ظاهرة تقود - في أغلب الاحيان - الي إشاعة الفوضى وأستمرارها، و تدمير كل ما هو قائم وفيه فائدة وصلاح للناس. ولا يمكن في حالة أنتشار هذه الظاهرة ان يتحقق أي بناء أوأعمار يحلم به المواطن, ويسعي له السواد الأعظم من الناس. 

ومن منظور آخر, يمكن القول ان الجعجعيون هم أُناس بخلاء ويملكون عقول فارغة.. ويعدون ولا يفوا بوعدهم .. ويتكلمون كثيراً ولا يعملوا شيئاً. وانهم يصرون دائما علي ان يكونوا في الواجهة, وجزء لا يتجزا من الحل النهائي, وانهم يعتقدوا ان إزدياد وإرتفاع الصُراخ والثرثرة والوعيد والتهديد, هي أهم الوسائل التي ستحقق  لهم أهدافهم, وستُمكنهم من أعادة بناء الدولة!

الأسباب
السؤال الذي قد يسأله أي مواطن هذه الايام هو: ما هي أسباب أنتشار هذه الظاهرة, وبشكل  سريع وخطير في بلادنا؟ والاجابة في أعتقادي تكمن في أسباب عديدة, يمكن حصرها في:

(1) الارضية المناسبة 
بمعني لا يمكن أن تنتشر "ظاهرة الجعجعيون" في مجتمعنا إلا بوجود أرضية ملائمة ومناسبة لها. وكلنا يعلم ان شعبنا العظيم قام بثورته – بالدرجة الاولي - لتحقيق هدف مُحدد ووحيد, الا وهو إسقاط النظام الدكتاتوري المُتجسد في حكم القدافي. من هذا الفهم يمكن إستخلاص الآتي - "ان ثورتنا قد نجحة" وحققت هدفها التي قامت من أجله. ولكن وللإسف الشديد, بتحقيق هذا الهدف العظيم أصبحت أراضي الوطن مفتوحة ومناسبة لكل من هب وذب للحديت والكلام والتصور في كيف يجب ان يتم أعادة بناء الدولة الجديدة, وكيف يمكن تحقيق حلم الوطن المنشود.

(2) الفراغ السياسي 
بعد إسقاط الحكم الدكتاتوري الظالم, ساد فراغ سياسي مُخيف, قاد الي أنتشار الفوضي وسيطرة الجماعات التي تمتلك السلاح والدخيرة! بمعني ان المشكلة الان هي اننا نعيش في "مرحلة ما بعد الثورة," والتي لم يكن شعبنا مُستعد لها. وبمعني آخر يمكن القول ان الثوار الحقيقيين الذين قاموا بالثورة كانوا غير مستعدين لهذه المرحلة, أي لم يكن لهم "قيادة موحدة!" تقودهم لمواجهة المشاكل والتحديات الجديدة, وليس لهم "برامج واضحة" لكيفية إعادة يناء الدولة وأعمار الوطن! والأخطر من كل ذلك, لم يكن لهم "كوادر مؤهلة وقادرة" علي إعادة الاستقرار وتحقيق الامن والامان! ونتيجة لكل ذلك إن أستغل الجعجعيون هذا الفراغ السياسي وقاموا بتوظيفه لتحقيق مصالحهم الشخصية والآنية, ونتج عن كل ذلك أنتشار الفوضي, وظُهور الفساد وشيوعه, وفراغ المؤسسات الوطنية والمحلية من القدرات والخبرات المؤهلة لقيادة المرحلة القادمة, والإبحار بالأمة الي شاطي الأمان.

النتائج       
للإسف الشديد لـ "ظاهرة الجعجعيون" نتائج كثيرة كلها سلبية وضارة ومّدمرة, لعل  من أهمها

(1) أنتشار الفوضي
  يمكن القول ان أهم نتائج ظاهرة الجعجعيون هو أنتشار الفوضي والديمومتها. بمعني عندما تزيد درجة الجعجعة يتحول الحوار والنقاش إلى تبادل للشتائم والأتهامات وإثارة للنعرات العرقية والقبلية والجهوية،...وفي العادة يؤدي إلى تجاوز مفهوم الحرية الفردية والاعتداء على حريات الآخرين والإساءة لهم واتهامهم. وبمعني آخر ان عدم إذراك وفهم هذا الوضع الحرج الذي تمر به بلادنا هذه الايام, والعمل علي الاسراع في معالجته المعالجة الصحيحة والمناسبة, وفي أسرع وقت ممكن, سيقود حتما الي أستمراريته, وشيوع الفوضي وانتشار الفساد وإنهيار ما تبقي من مؤسسات ومُقومات الدولة. ويمكن تشبيه هذه الظاهرة بـ "كرة الثلج" التي يصنعها طفل صغير ليلعب بها. أذ يقوم الطفل بصنع كرة صغيرة من التلج ويتركها تتدحرج, فكلما تدحرجة الكرة علي التلج , كلما أزداد حجمها وثقل وزنها. وهذا بالضبط - في أعتقادي - ما سيحدث للفوضي والفساد أذا أستمر الجعجعيون في السيطرة علي مقاليد الأمر في البلد! وستكون نتائجها النهائية - لا سامح الله - سلسلة من المشاكل التي لن نستطيع حلها, والكوارث التي لا يمكن إيقافها, ولا يمكن توقع نتائجها الحقيقية والنهائية!

(2) إهدار المال العام
  أما النتيجة الثانية لـ "ظاهرة الجعجعيون" فهي ظاهرة إهدار المال العام. والحقيقة ان المؤشرات علي ظاهرة إهدار المال العام عديدة ولعل من اهمها ما يتم الإعلان عنه في التقارير السنوية لديوان المحاسبة, والتقارير السنوية لديوان الرقابة المالية والإدارية وخصوصا مند 2013, من تجاوزات ومخالفات واضحة لإهدار متكرر للمال العام هو أمر مؤسف وخطير لدولتنا, ولن يكون لنا وطن الا بمكافحة هذه الظاهرة السيئة وأجتثاتها من جدورها وذلك بسن القوانين المناسبة والحزم والعقاب الرادع لمُرتكبي هذه الجرائم. فمن الحقائق التي لا تُخفي علي أحد ان المسؤولين قد  إهداروا مليارات الدولارات خلال السنوات الماضية دون رقيبٍ ولا حسيب!

(3) المجاهرة بالفساد
  أما النتيجة الثانية لـ "ظاهرة الجعجعيون" فهي المجاهرة بالفساد والتباهي به. والمجاهرة بالفساد تقود حتما الي الإستخفاف بمطالب الشعب وإحتياجات الوطن, وتجاهل كل ما هو عام أو حتي مُقدس. وعليه يمكن القول ان المجاهرون بالفساد – في أعتقادي - هم أشد خطرا، وأبلغ ضررا على مجتمعهم من اي شيء آخر. وعلينا أيضا ان نُدرك بأنه عندما يسود الجعجعيون في مجتمع ما, يصبح هذا المجتمع مليء بالفساد والمنكرات على كافة الأصعدة والمستويات.

الخاتمة
   في الختام يمكن القول انه لكي تنتقال دولتنا من حالة الفوضي التي يمارسها ويستغلها الجعجعيون هذه الايام, إلى مرحلة جديدة تسود فيها الديمقراطية والاستقرار والامن والامام, لابد من التأكيد علي: 
 
 (1) لابد من الاعتراف بان ما يدور في ليبيا هذه الايام هو تجسيد فعلي وحقيقي لــ "ظاهرة الجعجعيون," وان ما يقوم به هؤلاء الجعجعيون هو مجرد تكرار لـ "الحلول الفاشلة," و "المصطلحات السادجة," و "الشعارات الفارغة." وان جُّل أبناء شعبنا  قد سئموا من سماعها, وقد تعبوا من التعامل معها, وإكتشفوا ان أصحاب هذه الشعارات والحلول والمشاريع, يتصارعون ويمارسون الخداع والتضليل, في   الوقت الذي يحاولون فيه الظهور بمظهر المفكرين والحكماء والمصلحين.

  (2) لابد من الايمان بان "الحلول الجدرية والواقعية," لن تصدر الا من عقول خبيرة وقادرة ومُدركة لما يحتاجه الوطن والمواطن. وميزة هذه العقول انها لا تتكلم كثيرا, ولا تحدت ضجيجا, ولا تحتاج الي ثرثرة, لانها كالآواني الممتلئة لا تحدث جعجعة. وان هذه العقول التي تمتلك القدرة على القراءة الصحيحة والدقيقة والتشخيص السليم والتفكير الموضوعي, قد تم خلال السنوات الماضية للإسف, تهميشها وإقصاءها من المشهد السياسي من قِبل هؤلاء الجعجعيون المفلسون. وعليه لابد من دعوة كل هذه القدرات والخبرات الليبية للمساهمة في إعادة بناء الدولة, وتحقيق حُلم الوطن. ومن جهة أخري, لابد من قطع الطريق علي كل الجعجعيون ومناشهدتهم للخروج من الساحة السياسية وفي أسرع وقت ممكن. 

وأخيرا, علينا جميعا ان نعي بأنه لن يتم إعادة بناء الدولة ولن ينهض الوطن الا بخروج هؤلاء الجعجعيون من المشهد السياسي وإرجاع الامور لنصابها الطبيعي والمناسب... أدعو الله ان يتحقق ذلك في القريب العاجل.

والله المستعان.

د. محمـد بالروين 
berween@gmail.com

أخر مقالات نشرتها