Tuesday, November 15, 2011

من السياسة ( 4 من 4 )



أهم الشروط التى يجب توافرها فى السياسى المسلم
 فى الجزء الاول من هذا المقال حاولت تسليط بعض الضوء على معنى السياسة ومكوناتها وبالتحديد الاجابة على الاسئلة: ما هى السياسة؟ ما هى أهم خصائص (أوأبعاد) السياسة؟ وماذا تعنى السياسة من منظور إسلامى؟ وفى الجزء الثانى حاولت الاجابة على السؤال: ما هى أهم الثوابت فى السياسة الاسلامية؟ وفى الجزء الثالت حاوت الاجابة على السؤال: ما هى أهم المتغيرات فى السياسة الاسلامية؟ أما فى هذا الجزء الرابع (والآخير) من هذا المقال فسوف يرتكز حديتى على أهم الشروط التى ينبغى ان يتحلى بها السياسى المسلم وكيف يجب أن يتعامل مع واقعه  
  
من كل ما تقدم فى هذا المقال يمكن ان نستنتج مجموعة من المبادىء والأسس التى لابد على كل من يريد الخوض فى مجال السياسة (ويريد ان يدرك كل أبعادها الداخلية والخارجية) ان يعيها ويفهمها وينطلق منها ولعل من أهمها المبادى الاتى: 
       
(1)السياسة فى الاسلام "عبادة:"
وذلك لان الاسلام جعل الاهتمام بأمر المسلمين ضرورة وواجب على كل مسلم ومسلمة. وفى هذا الشأن يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم." وعليه فعلى كل سياسى مسلم ان يلتزم بمبادى الاسلام فى الاقوال والافعال والسلوكيات, وان ينظر الى كل أعماله السياسية على انها عبادة يتقرب بها الى الله عز وجل.

   
(2)السياسة فى الاسلام "خدمة:"
هذا يعنى ببساطة جدا ان الرجل السياسى فى الاسلام هو خادما لقومه وراعيا لمصالحهم. وان يقتنع بأن تحقيق السيادة والقيادة لن تتحقق له الا اذا خدم الناس وتواضع لهم استجابة لقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: "خادم القوم سيدهم" وقوله: "من تواضع لله رفعه."

 
(3)السياسة فى الاسلام "شورى:"
بمعنى ان تتم ممارسة السياسة باسلوب شورى استجابة لقول الله تعالى: "وأمرهم شورى بينهم." وعليه يجب ان تتم سياسة المسلمين (بل وجميع أمورهم) على أساس مبدا الاختيار ومشاركة كل أبناء الشعب فى أخد القرارات وتقرير مصير الامة.
     
(4)السياسة فى الاسلام "واقعية:"
وهذا يعنى ان تعاطى السياسة عند كل العقلاء والكثير من السياسيين لا يعنى مجرد الحديت على نظرياتها وأفكارها وقيمها وممارستها وانما يشمل أيضا واقعها وبيئتها وزمانها. فالواقع الذى تنطلق منه السياسة هو الذى سيعكس طبيعتها, والبيئة التى نمت فيها السياسة هى التى ستحدد أهدافها, والوقت الذى حدتت فيه السياسة هو الذى سيشكل لونها. ولعله من المناسب هنا هو ان أسلط بعض الضوء حول مفهوم السياسة المنطلقة من واقعنا, والنامية فى بيئتنا, والمناسبة لزماننا, والساعية لتحقيق أهدافنا.

    
وهنا قد يسأل سائل: ماذا تقصد بمفهوم الواقعية السياسية من منظور إسلامى؟ وأجابتى بأختصار شديد هى ان ما أقصده بالواقعية السياسية من منظور إسلامى هو ان يكون السياسى المسلم إنسان يدرك الواقع الذى يعيشه, ويرفض الاستسلام له, ويتعامل معه بالحكمة المناسبه, وينطلق منه نحو اهذافه المنشودة. ولكى يتحقق كل ذلك فى تصورى لابد من:
 
"أولا:" التأكيد على ان الواقعية السياسية من منظور أسلامى لا تعنى "الاستسلام," بمعنى لا يجب التسليم للواقع خصوصا اذا كان هذا الواقع ضالما، وذلك لان أي حل أو اى تسوية تتم على هذا الأساس لا يمكن الا ان تكون حلا خاسرا وجائرا. والامثلة فى واقعنا المعاصر كثيرة فعلى سبيل المثال لا الحصر بأسم الواقعية السياسية زار الرئيس المصري السابق أنور السادات مدينة القدس المحتلة سنة 1977 ومن ثم عقد المصالحة مع اسرئيل ... وباسم الواقعية السياسية ذهب العرب بقيادة منظمة التحرير الفلسطينى الى مؤتمر مدريد عام 1991 رافعين شعار "الأرض مقابل السلام." ... وبأسم الواقعية السياسية سلم رئيس اليمن علي عبد الله صالح بلاده عام 2002 الى الامريكيين ليعتوا فيها فسادا, ودون مقابل الا المحافظة على حكمه! ... وباسم الواقعية السياسية إستجاب العقيد القدافى لكل مطالب أمريكا عام 2003 دون قيدا أو شرط, بل قد ذهب الى أبعد من هذا وذلك بان قام بتعويض عائلات ركاب طائرتى بانام الامريكية التى سقطت فوق لوكربى عام 1988 بمبلغ يقدر بثلاث مليار دولار, وبوتا الفرنسية التى سقطت فوق النجر عام 1989 بمبلغ يقدر مئات ملايين دولارات, برغم من انه لم يعترف بجريمة التفجير!!! ... وقد لخص لنا الاستاد عبد الرحمن الراشد السبب الرئيسى وراء موقف كل من العقد القدافى والرئيس اليمنى صالح كالاتى: "العقيد معمر القذافي قال: لو لم نتغير لداستنا الاقدام، ويعني بذلك القوة الاميركية، والرئيس علي عبد الله صالح كشف ان الولايات المتحدة هددته عسكريا اذا لم يتعاون مع حملتها على القاعدة واتباعها" (الراشد, 2002).
     
"ثانيا:" لابد من التأكيد على ان الواقعية السياسية من منظور اسلامى لا تعنى "الاباحية بمعنى ان الغاية تبرر الوسيلة." كما يؤمن الكثير من الواقعيون السياسيون اليوم خصوصا فى الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال قام الدكتور كيسنجر فى بداية السبعينات بتحريض الجيش التشيلى على إسقاط الحكومة التى إختارها الشعب فى إنتخابات حرة وقاد ذلك الانقلاب الى ما عرف "بمذابح تشيلي" والى حكم الدكتاتور بينوشيه. وأستطاعت الولايات المتحدة ان تحقق مصالحها فى تشيلى من خلال القهر والاستبداد لسنوات طويلة.
    
إن هذا النوع من الواقعية يؤمن بان المصلحة الاساسية لكل دولة هى "القوة." وعليه فان إكتساب القوة والمحافظة عليها وزيادتها هو اساس كل العلاقات بين الدول. وان العلاقات بين الدول تقوم على أساس ما يعرف بإسم: "لعبة المحصلة الصفرية," بمعنى الرابح فى هذه اللعبة ياخد كل شىء والخاسر يخسر كل شىء. باختصار شديد يمكن القول ان هذا النوع من الواقعية تحاول التعامل مع الواقع من أجل إستغلاله وتوضيفه لخدمة مصالحها الانانية فقط ... بمعنى ان كل شىء مباح من اجل المصلحة.
 
"ثالتا:" لابد من التأكيد على ان الواقعية السياسية من منظور إسلامى لا تعنى "البرغماتية" التى تقوم على أساس فكرة أن الحق هو المنفعة وأن كل ما يحقق نفع هو الفكر الصحيح. وان الحقائق متغيرة ونسبية بمعنى لا وجود للحقيقة الدائمة ولا للقيم الثابتة, أو كما قال أحد رواد هذه النظرية "وليم جيمس" بان: "الحقيقة تتشكل كما تتشكل الصحة والثروة والقوة في مجرى التجربة" (أيرن ماسك, 2005).
    
"رابعا:" لابد من التأكيد على ان الواقعية السياسية من منظور أسلامى لا تعنى "المثالية." التى تؤمن بان العلاقات بين الدول تقوم على القانون والاخلاق فقط. وإن مصالح الدول هى مجموع القيم التى تأسست عليها كل دوله. وتعتبر هذه النظرية ان الضمير الانسانى هو الحكم الاعلى فى كل القضايا الاخلاقية. وتركز على بناء عالم أفضل خال من النزاعات ومنطلقة من الاعتقاد التفاؤلى حول الطبيعة البشرية. وتؤمن ايضا أن "العنف وخصوصا الحرب"هى ظاهرة شادة ويجب رفضها وإن السبب الرئيسى لها هو إساءة الفهم بين الشعوب (جاكوبسن, 1998, ص 480).
     
ولعل من أهم رواد هذه المدرسة رئيس أمريكا "ودرو ولسن 1912- 1920" صاحب فكرة "عصبة الامم," ومبدا "الامن الجماعى." ورئيس وزراء بريطانيا فى الثلاتينات السيد "نيفال تشمبيرلين" صاحب فكرة "الاسترضى او التطبيع" مع هتلر. وايضا الرئيس الامريكى "جيمى كارتر 1976- 1980" الذى أدخل مبادىء حقوق الانسان كشرط من شروط العلاقات الدولية (زيقلر, 2000, ص5).
    
بناءا على كل ما تقدم يمكن القول بأن الواقعية السياسية من منظور اسلامى تقوم على مجموعة من الاسس لعل من أهمها:
    
1. التعامل مع الواقع الراهن بجدية وقراءة موضوعية من أجل تغييره وعدم الاستسلام له, ومن أجل قبول وتوظيف كل ما هو حسن ورفض كل ما هو ضار. فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
  
2. العمل على رؤية الأشياء كما هي لا كما ينبغى, والتعامل معها من أجل تغيير معطياتها السلبية لخلق وضع آخر أفضل.
  
3. الحرص على استخدام كل الوسائل والاخد بكل الاسباب الضرورية لتحقيق الشعارات التى نرفعها. بمعنى لا يكفى ان يرفع الاسلاميون شعارات مثل شعار "الاسلام هو الحل," بل لابد ان يكون هذا الشعار عملى ويمكن تجسيده وتطبيقه على أرض الواقع. يروى ان سيدنا على كرم الله وجهه بعد نتيجة التحكيم بينه وبين معاوية انشقت عنه فرقة من أتباعه عرفت فى التاريخ الاسلامى بالخوارج, ورفعت شعار: "لا حكم الا لله." وبينما كان الامام على يخطب فى الناس ذات يوم قال له رجل "لا حكم الا لله" فقام أخر وقال مثل ذلك ثم توالى عدة رجال يقولون نفس القول. فرد الامام عليهم قائلا: "الله أكبر ... نعم لا حكم الا لله ... وانها كلمة حق أريد بها باطل." بمعنى نعم لا حكم الا لله بتطبيق قراّنه ... ولكن هذا القراّن يحتاج الى رجال يطبقونه ... ويعملون به ... ويضعونه فى الحياة العملية ... وليست مجرد شعار يرفع ضد الخصوم أو للمزايد على كل من يختلف معنا.
        
4. الايمان بان السياسة صراع من أجل القوة والنفود ومن أجل تمكين القيم فى المجتمع, بمعنى لابد على السياسى المسلم الواقعى أن يؤمن بأننا نحن اليوم نعيش فى عالم تسوده القوة ويحكمه الاقوياء, وان الضعفاء لا يستطيعون الاملاء. وعليه فلابد من السعى الدائم للحصول على كل ما هو مستطاع إستجابة لقول الله تعالى "وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة." ولابد ايضا من السعى الدائم لتقوية أنفسنا حتى نستطيع تحقيق كل ما نريد. وبالاضافة الى هذا كله لابد من الايمان بان الحق المنتزع بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. 
      
5. التاكيد على ان الهدف الاساسى من القوة هو تحقيق الخير والدفاع على النفس وتمكين العدل على الارض استجابة لقول الله تعالى: "الذين ان مكناهم فى الارض أقاموا الصلاة وأتو الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور" (الحج 41). وهنا لابد من التأكيد على ان الايمان بمبدأ القوة كمبدأ من مبادىء السياسة لا يعنى بأى حال من الاحوال ان نفرض أفكارنا وبرامجنا على الآخرين. ان البرامج السياسية التى يتبناها السياسى المسلم الواقعى يجب الا تفرض فرضا على المواطنيين وانما يتم تحقيقها عن طريق الاقناع وممارسة مبذا الاختيار. وذلك لان الاسلام أتى لتحقيق العدل ولايمكن ان يكون هناك عدل بدون وجود حق الاختيار.
    
6. رفض مبدا "الغاية تبرر الوسيلة" أو كما نقول بالليبى "اللى تغلب به اللعب به," الا فى حالات الضرورة القصوى انطلاقا من مبدا "الضرورات تبيح المحظورات."
         
7. عدم التهديد بشىء لا نستطيع القيام به. فمن الغباء ان يعلن السياسى الواقعى الحرب على خصمه وهو يعلم يقينا أنه سينهزم. ومن جهة أخرى ليس من الأخلاق السياسية ان يحرم الانسان على الغير ما يبيح لنفسه.
         
8. أحترام كل من يختلف أو يتنافس معنا وعدم الاستخفاف به. بمعنى على كل سياسى واقعى ان لا يستخف أويقلل من خصمه, ويجب ان يحترم كل من يتنافس معه.
         
9. الوعى بكل ما يدور حولنا. بمعنى لابد على السياسى المسلم ان يمارس ما يمكن تسميته "بالذهاء السياسى" بشرط ان يكون هذا الذهاء فى حدود المستطاع والمباح. فالمسلم يجب ان يكون "كيس فطن" كما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه. ولعل خير مثال فى هذا السياق هو ما قاله سيدنا على كرم الله وجهه لعمرو بن العاص بعد نتيجة التحكيم, اذ قال له قولته المشهورى: "والله يا عمرو... لولا الاسلام ... لكنت أذهى العرب." 
          
10. الابتعاد عن المثالية الزائدة من جهة, وعن الواقعية الانانية التى تبيح كل شىء من جهة أخرى. بمعنى يجب ان يكون شعارنا السياسى هو: "تعالوا نعمل معا: الكل من مكانه... والكل بما يستطيع." 

 الخاتمة
لعله من المناسب ان أختم هذا المقال بدعوة كل سياسى وطنى مخلص فى داخل الوطن وخارجه, والى كل من يريد أن يتعاطى السياسة, أن يبدل كل ما لديه من طاقات وامكانيات من أجل إعادة الوجه الجميل لهذا النوع من السياسة فى الساحتين المحلية والدولية. وذلك بأن يكون وبالدرجة الاولى سياسى عادل وأخلاقى وواقعى. وان يؤمن بالمنهج العلمى فى الدراسة والتحليل ... وان يمارس العملية فى التعاطى مع كل الاحدات التى تواجه شعبنا وامتنا ... وأن يدرك جيدا بإن التفريط فى دراسة وفهم التحديات التى يعيشها والقصور فى معرفة الواقع المحيط به سوف يؤدى الى الفشل فى تحقيق الاهداف التى يسعى اليها. والاهم من كل ذلك هو أن يؤمن بان السياسى الواقعى ليس هوالذي يستسلم للواقع ... ولا الذى يبيح كل شىء من أجل تحقيق مصالحه ... ولا الذى يعيش الاحلام ... ويتباكى على الاطلال ... ويتحدت على بطولات الماضى ... ولا الذى يقرأ التاريخ ليعيد كتابته من جديد... وانما السياسى الواقعى الحقيقى هو الذى يفهم واقعه ويتحداه ... ويعمل على تغييره للاحسن بكل ما أستطاع من قوة ... وهو الذى يستثمر كل الامكانيات ... ويوظف كل الجهود ... ويستخدم كل الوسائل المشروعة ... من أجل تحقيق اهدافه المنشودة... ومن أجل مواكبت الشعوب المتقدمة ... هذه هى سنة من سنن الحياة ... وهذاهو جوهر السياسة ... وهكذا ينبغى أن نسير ... فهلموا بنا يا شباب الاسلام لنعيد لأمتنا أمجادها المفقودة ومكانتها الطبيعية بين الدول القوية والمتقدمة ... ولنكن على يقين بانه : بالنوايا الصادقة ... والارادات القادرة ... والعمل الدؤوب ... سوف ننتصر ونتجاوز كل العراقيل والتحديات باذن الله. وعندئد سوف نصنع التاريخ الذى ستعتز به أجيالنا القادمة ...

وختاما أدعوا الله عز وجل أن أكون قد وفقت فى توضيح جانب من جوانب السياسة ...
  

والله المستعان
    

د. محمد بالروين
berween@hotmail.com
________________________
الهوامش
- أنظر مقال: عبد الرحمن الراشد "الواقعية السياسية." 5 سبتمبر 2002
http://www.asharqalawsat.com/leader.asp?section=3&issue=8682&article=122834
- أنظر كتاب: Ziegler, David W. (2000) “War, Peace, and International Politics.” New York: Longman, 8 edition.
- أنظر كتاب: Jacobsohn, John A. (1998) “An Introduction to Political Science.” New York: West/Wadsworth
- أنظر: IronMask ,8/07/2005 "لا تستغرب فكل هذا هو الحياة"
http://thisisthelifeiknow.blogspot.com/2005/08/blog-post_112337188334701014.htm l

No comments:

Post a Comment

أخر مقالات نشرتها