Saturday, December 08, 2018

المُفلســــــون

المُفلســــــون

د. محمـد بالروين

المُفلس , في السياسة, هو شخص غير قادر علي تأدية واجباته ودفع مُستحقاته, ولا يستطيع أنجاز ما يجب إنجازه. بمعني المُفلس هو شخص عجز علي الالتزام بالتعهدات التي تعهد بها عند بداية حملته الانتخابية أو سعيه للحصول علي منصب قيادي في الدولة, وهو شخص يفتقر للافكار والمشاريع التى تمكنه من التفاعل او حتي التناغم مع أفكار ومتطلبات الآخرين وخصوصا المعارضين له في الراي. وبمعني آخر هو شخص لا يُجيد الا ممارس التحايل والتدليس والإباحية السياسية لإيهام الآخرين بمؤهلاته وكفاءته وقدرته, والعمل على تحقيقكل  ما لا يستطيع تحقيقه بالطرق المشروعة.

أنواع المُفلســــين  
يمكن القول ان هناك أنواع عديدة للإفلاس لعل من أهمها:

1. المُفلس إقتصادياً   
وتعريفه العام هو عملية التحول من اليُسر إلى العُسر، بمعنى عدم القدرة على تسديد الالتزامات المالية المترتبة على شخصٍ ما. ويتحدد ذلك عندما يُعلن هذا الشخص أنه غير قادرعلى الوفاء بالتزاماته أمام الدائنين, وحينها يقوم بتصفية كل أملاكه وحساباته  لتسديد أكبر قدر ممكن من هذه الالتزامات كما يحددها قانون الدولة المتواجد بها, وكنتيجة لذلك يخرج هذا الشخص من سوق العمل.

2. المُفلس فكرياً 
في هذا النوع من الإفلاس يصبح الشخص عاجزاً عن تقديم الردود العلمية والموضوعية التي تؤيد فكرته أو برنامجه عند احتدام الحوار والنقاش مع الآخرين, وفي العادة, تجده يحاول اللجؤ إلى وسائل أخري للتعبير عن نفسه - كرفع الصوت أو السب أو الاتهام والتخوين أو الهروب من ساحة المعركة الفكرية. وهذا السلوك هو نتيجة لإصابة الشخص بالجمود والسكون تحت مظلة أوهام الماضي وعدم مقدرته لتجاوزه بالتجديد والإبداع والنظرة المستقبلية للحياة. وبمعني آخر الافلاس الفكري عبارة عن عجز ونُضوب يصيب شخص ما في أفكاره وإبداعاته ويجبره الي اللجوء للتقليد والتكرار والابتعاد عن التفكير وألابتكار.

3. المُفلس أخلاقياً 
يحدث هذا النوع من الإفلاس عندما تكون سيئات الشخص أكثر من حسناته, وبذلك يكون شخص غير مرغوب فيه في أي مكان يذهب له. ويكون هذا الشخص فاقد للقيم الحميدة , وفاسد السلوك والمنطق. والمؤشر علي هذا النوع من الأفلاس هو أنتشار أشخاص ليس لذيهم منطق ولا حديث الا المُبالغة والكذب واللف والدوران وتوجيه التهم والشتائم البذيئة  التي تعكس تربيتهم وأخلاقهم.

4. المُفلس سياسياً 
هو عجز الشخص علي تقديم الافكار أو الحلول أوالمشاريع العملية والمناسبة لمواجهة التحديات والاشكاليات التي تُوجه مجتمعه, أي عجز هذا الشخص عن إنتاج بدائل ومشاريع جديدة تساهم في تغيير مجتمعه للإحسن. وبمعني آخر, دور السياسي الحقيقي هو بيع الأمل للمواطنين ووعهدهم بغدِ أفضل، فإذا وصل إلى السلطة ولم يكن قادرا علي تنفيذ او تحقيق ما تعهد به, فإن ذلك هو الافلاس بعينه. ومن ابرز مظاهر الإفلاس السياسي أنتشار الجدل العقيم بين النخب, وعدم قدرة السياسي على الانسجام والتناغم مع أفكار ومتطلبات ناخبيه,  وسعيه وراء تحقيق مكاسبه الشخصية بأنانية مفرطة.

أدوات المُفلســين
الحقيقة ان هناك العديد من الادوات التي يمكن للمُفلسين السياسيين أستخدامها, لعل من أخطرها:

1. الاحتيال 
الشخص المُفلس هو شخص مُتحايل في سلوكياته وقدراته وخبراته, ويحاول دائما استعمل الحِيل المُتاحة له للوصول الي أهدافه وتحقيق مآربه بأستخدام أساليب عديدة أهمها اللف والدوران. والحيلة في مفهومها القانوني تعني افتراض أمور مختلفة للواقع المُعاش لمحاولة تغيير احكام ومعاني القانون دون التعرض إلى نصوصه. وهنا لابد من التذكير بأن كلمة "حيلة" في العموم لا تعني - جانبها السلبي فقط - كما قد يتبادر إلى ذهن البعض. وبمعني آخر , يمكن القول ان الحيلة ليست مجرد أستخدام طرق الكذب والنفاق والمراوغة لخداع خصم ما، بل على العكس من ذلك، فكلمة الحيلة, في العموم, لها بُعد إيجابي أيضا, فهي لغوياً تعني الحذق والذكاء ودقة التصرف. فالإنسان, علي سبيل المثل, يستطيع بعقله أن يصل إلى حيلة تخرجه من بعض ما يقع فيه من المآزق، وهذا شيء إيجابي ومرغوب. وفي هذا الصدد يقول الامام القرطبي “... جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف الشريعة ولا تهدم أصلاً، ..."(للمزيد راجع: النادي , 2016). بمعني آخر لابد ان نعي بان الانسان في حاجة الي أستخدام وممارسة الحيلة الايجابية أحيانا بشرط ان تكون هذه الحيلة شرعية (بمعني عير داخلة في النهي ولاهي باطلة) وأخلاقية ونافعة له وللآخرين. ويقول ابن القيم رحمه الله عن الحيلة "... إن كان المقصود أمرا حسناً كانت الحيلة حسنة. وإن كان المقصود أمرا قبيحاً كانت الحيلة قبيحة. وإن كان طاعة وقربة كانت الحيلة عليه كذلك. وإن كانت معصية وفسوقاً كانت الحيلة عليه كذلك."(الجريدان, 2015). والخلاصة ان هناك نوعين من الحيل - الحيلة المحمودة (أوالمشروعة) والحيلة المذمومة (أو المُحرمة), والفرق بينهما هو ان الحيلة المذمومة يشترط فيها القصد إلى المفسدة، فالمحتال عند مباشرة الحيلة يقصد المفسدة, بمعني أستخدام كل الطرق والاساليب المُعلنة والخفية التي يتوصل بها الشخص إلى الغرض المذموم  شرعاً أوعقلاً أوعرفاً،.

2. التدليس 
 أى ان الشخص المُفلس يعمل دائما علي أخفاء وتزوير حقيقة قُدراته ومؤهلاته وخبراته في المجال الذي يريد العمل فيه، أوعن امتناعه من تقديم أوراق أوإيضاحات مع علمه بما يترتب على  ذلك الامتناع. وقد عرف التقرير الثالث للجنة القانون الدولي التدليس علي انه "العرض الخاطي للمعلومات وكافة المناورات التي تستهدف الخداع والتضليل مثل التصريحات الكاذبة وعرض وقائع سواء شفافة او كتابة أو بأستخدام خرائط أو خطط أو صور أو مسودات علي الرغم من علم الدولة كونها غير حقيقية  أو إعتقادها بعدم دقتها أو ان الدولة لم تبذل العناية الواجبة للإتأكذ من صحتها وذلك بقصد إيقاع الغير في الغلط وحمله علي إبرام المعاهذات أوالأنظمام اليها"(راجع: شبكة    المنصور, 2008). ومن المؤسف القول ان جُلّ  
 النخب السياسية في ليبيا مند 2011, قد مارست (ولا زالت تمارس للأسف الشديد) التدليس على الشعب الليبي مما قاد لأستمرار الفوضي والفساد في كل ربوع الوطن.

3. الإباحية 
 ما اقصده هنا هو الإباحية السياسية التي يبدأ المُفلس السياسي في أستخدامها بمجرد تسلمه مقاليد الأمور في عمله! وبمعني آخر هي أعتقد المُفلس السياسي ان "كل شيء مُباح له," وأن السياسة في تعريفه, هي مُجرد "فن الممكن," وان كل ماهو ممكن في نظره مُباح ومُتاح! وكنتيجة لهذه النظرة الخاطئة في السياسة فقد اصبحت ليبيا في نظر هؤلاء المُفلسين "بلد الاباحية السياسية!"
من هذا الفهم انطلق هؤلاء المُفلسين السياسيين والمُتقلدين للمناصب السيادية في الدولة للبحث علي المثيرات والعيوب والاخطاء عند الآخرين وخصوصا منافسيهم لتحقيق أهدافهم الشخصية حتي ولو كانت علي حساب الوطن والمواطن! والأخطر من كل ذلك, في نظري, ليس أنتشار وتصاعد الإباحية السياسة، وانما في ذلك القبول الواسع لهذه الظاهرة السيئة من قِبل شريحة كبيرة من المواطنيين, وخصوصا أنصار هؤلاء السياسيين, تحت دريعة "شرعية الامر الواقع," وقبولهم للتعريف الخاطيء لبعض المفاهيم السياسية , وبما يتمشي مع مصالح هؤلاء السياسيين مثل: التلاعب بمفهوم "الجلسة الرسمية ومدتها!" ومفهوم "النصاب لإنعقاد الجلسة الرسمية!" و "التصويت عن طريق التوقيع دون الحظور للجلسة!" و تعريف معني "التوافق السياسي," ومعني "الحكومة المؤقتة" و "حكومة الوفاق!" وأعتماد ميزانية الدولة في آخر شهر من السنة كما فعل مجلس النواب هذه السنة!  
  
الخاتمة 
يمكن ان أختم هذا المقال بالأشارة الي ان الوضع الراهن في بلادي يُشير الي ان َ السياسيين المتصدرين للمشهد السياسي, هذه الايام, مُفلسين سياسياً وفكرياً, ولا يملكوا ما يقدمونه للشعب, وليس لديهم رغبة ولا أستعداد حتي فى الحوار والاستماع للآخرين (الا الاجانب), والاغرب من ذلك انهم لا يتمتعوا بعقد أجتماعاتهم الا في خارج الوطن. وفي أعتقادي لم يمر الشعب الليبي في تاريخه الحديث بنخب مُفلسة مثل النخب السياسية المُتقلدة لزمام الامور هذه الايام!

والاسوأ من ذلك كله, ان بعض هذه النخب السياسية تعيش حالة إفلاس سياسي شبه كامل الأبعاد، ويتعاملون مع الواقع من خلال أصرارهم علي انهم جزء (لا يتجزأ) من الحل. ولكن هم, في الحقيقة و الواقع, أحد الأسباب الرئيسية في خلق وأفتعال الأزمات السياسية والاقتصادية والمعيشية, وخلط الأوراق, وتقسيم المؤسسات, وخلق الأجسام الموازية, واستغلال كل المناسبات المُتاحة لتبرير تصرفاتهم وأستمرارهم في التمسك بالسلطة والتحكم في زمام الامور تحت درائع عدة منها -  ما أسموه بــ "شرعية الامر الواقع," وتسويقهم لفكرة "أعتراف المجتمع الدولي بهم," وايضا "علاقاتهم بسفراء دول غربية !"

وعليه فعلي كل نشطاء المجتمع المدني وكل الخيَّرين في كل ربوع الوطن:

أولا: ان يعوا ويدركوا ان الإفلاس السياسي هو أشد وطأة على الوطن والمواطن من أي إفلاس آخر, وذلك لان هذا النوع من الإفلاس تغذّيه الرغبة الانانية الجامحة في الاستغلال والاستعلاء والتسلط ولو كلّف ذلك كل شيء للمُتسلق.  

ثانيا: ان يعوا ويدركوا باننا جميعا نعيش, هذه الايام, في "بلد مُفلس سياسياً." وان عدم الاعتراف بهذه الحقيقة لن يزيد الامور الا تعقيدا, ولن يدفع بدولتنا الا نحو المزيد من الفشل.

ثالثا: ان يعوا ويدركوا بان من تسبب في هذا الإفلاس, هم هؤلاء النخب السياسية التي تقلدت زمام الامور القيادية في الدولة مند انطلاق ثورة 17 فبراير 2011. بمعني آخر, علي كل الخيَّرين ان يعترفوا بان جُلَّ من شارك في قيادة البلد منذ إنطلاق ثورة 17 فبراير في 2011,  يتحملون مسؤولية ما آلت اليه الأوضاع في الوطن, وان عجزهم في ممارسة الحكم, وإعادة هيكلة الدولة وتدبير الشأن العام, وتشجيعهم علي الفساد والرشوة والسرقة, وعدم مُحاسبتهم لمن أهدر اموال الخزينة العامة, وعمل البعض منهم الممنهج لتأسيس دولة فئوية وجهوية يقودها أصحاب الولاءات لا أصحاب الكفاءات! والاسوأ من كل ذلك هو عجزهم علي (حتي البدأ) في تأسيس دولة المواطنة التي قامت من أجلها الثورة, والتي تقوم علي ثوابت مشتركة بين كل أبناء الشعب.

رابعا وأخيرا: يمكن القول ان الحقيقة التي لا غبار عليها انه, عندما يصل المُفلسون للسلطة يضيع الوطن, وتتحول الوطنية, عند هؤلاء المُفلسين, الي مجرد شعار للمُزايدة علي الشرفاء, وملجأ يلتجوا له عند الخطر من أجل حماية مصالحهم الخاصة والانانية! ويمكن ان نطلق عليهم  "الوطنيون الذين ضيعوا الوطن!" وينطبق عليها بذلك ما قاله الأديب البريطاني (في القرن الثامن عشر) صمويل جونسون في عبارته الشهيرة عن خطورة الوطنية حين تصبح "الملجأ الأخير للأوغاد". أليس هذا هو حالنا هذه الايام؟ الا تجد اليوم المفلسين يسيطرون علي المشهد السياسي ويصفون أنفسهم بالوطنيين الحقيقيين! ويتهموا كل من يخالفهم بالجهل وعدم معرفة الواقع السياسي , بالرغم من ان جميع المواطنيين (بغض النظر عن أتجاهتهم السياسية) يعلم جيداً ان السبب الرئيسي في فشل الدولة وتوسيع الفجوة بين فئات الشعب هم هؤلاء المفلسين الذين سيطروا (في غفلة من الزمن) علي مقاليد الامور ويرفضون مغادرة المشهد السياسي! وعليه يمكن القول انه لن يكون هناك وطن حقيقي, أساسه العدل ويحكمه القانون وترفرف فيه رايات الحرية ويسعي فيه كل مواطن للوصول الي السعادة التي يبحت عنها الا بعد غياب (أو تغييب بإسلوب ديمقراطي) هؤلاء المُفلسين عن المشهد السياسي.

وأخير... لا تنسوا يا أحباب أن هذا مجرد رأي للتذكير والتفكير أعتقد أنه صواب, فمن أتى برأي أحسن منه أخذناه , ومن أتى برأي مُختلف عنه احترمناه .. أدعو الله أن أكون بذلك قد ساهمت في خدمة أمتي وإصلاح وطني.


والله المسـتعان.
د. محمـد بالروين 
08 – 12 – 2018
berween@gmail.com


==========                                                     
المراجع

شبكة المنصور, " الســياســة الأمريـكيــة بــين ..الــتــدليـس والــتسـييس," الموافق 25 / اكتوبر / 2008 م http://www.alarabi2000.blogspot.com

 , "فن الحيلة والدهاء" , 07 ديسمبر, 2016, 
https://islamonline.net/19332

http://shamela.ws/browse.php/book-10353/page-13المكتبة الشاملة,

د. نايف بن جمعان الجريدان, الفرق بين الحيل المذمومة والذريعة الجائزة, 2015/12/30 - http://fiqh.islammessage.com/NewsDetails.aspx?id=11643

د. نايف الجريدان, الحيل المحمودة والحيل المذمومة وطرق التعرف عليه,  2015/05/07 - http://fiqh.islammessage.com/NewsDetails.aspx?id=10294

أبن القيم , إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، 1/ 385

أخر مقالات نشرتها