Saturday, November 14, 2020

ظاهرة السكرة السياسة*

 

ظاهرة السكرة السياسة*

د. محمـد بالروين

كتُيرون مِمَّن يتعاطون السياسة في ليبيا اليوم يعيشون مراهقة سياسية, 
ونشوة السكرة السياسية هي أشد وأنكي وأخطر من كل السكرات.

نشوة السياسة تعني –  باختصار شديد – الابتهاج والانبهار الاولي بطعم رائحة لذة السياسة والانخراط فيها دون تردد، ولا أهداف واضحة، ولا قيود مُحددة، ولا شروط مُلزمة، ولا حتى معرفة كافية بالواقع المُعاش… وبمعني آخر تعني تدوق ما يمكن تسميته بــ “السكرة السياسية."

وظاهرة الســــكرة السياســة هنا تعني الغمرةُ واللذة الذاهبة بالعقل والادراك خلال فترة زمنية ما. وهي الحالة التي تغشى بصر مُتعاطي السياسة فتحبسه عن الوعي بما يُبصر، وتشل عقله عن التفكير، وتعجزه عن التركيز، وتُغيبه عن الواقع السياسي الذي يعيش فيه.

انطلاقا من هذا الفهم يمكن اعتبار “ظاهرة الســــكرة السياسـيـة” من أخطر الظواهر الاجتماعية الضارة والمنتشرة اليوم بين النخب السياسية والمسئولة علي اتخاد القرار السياسي في ليبيا. ولعله من المناسب التذكير هنا ان “ظاهرة السُّكر” عموما ليست بظاهرة خاصة ومُقتصرة علي شارب الخمرة فقط (كما يعتقد البعض)، وإنما يمكن اعتبار ظاهرة السكر بالخمرة هي أرخص أنواع السكر واشهرها اجتماعيا، وذلك لأنه شراب يؤثر في الإنسان لمدة قصيرة يعيش فيها شارب الخمر حالة من حالات الارتياح الزائف، والحُلم الكاذب، ويكون خلالها  فاقدا لعقله ووعيه ثم يعود بعدها إلى واقعه وتنتهي سكرته ويري انه ارتكب أمرا غير مقبول  اجتماعيا، ومُحرم دينيا، ولا يجب التباهي به بين نظرائه… بينما نجد ان نشوة السكرة السياسية هي أشد وانكي واخطر من كل السكرات الآخري، إذ تدفع بمُتعاطي السياسة بالتباهي والتظاهر بما ليس لديه وما لا يملك ولا يستطيع، وتؤثر فيه لمدة أطول قد يستمر تأثيره في بعض الاحيان مدي الحياة.

ومن جهة أخري لابد من التأكيد بان “ظاهرة السكرة السياسية” هي في الحقيقة ظاهرة كغيرها من الظواهر الاجتماعية الآخرين، فكما ان هناك “سكرة للحب” و "سكرة لكثرة المال” و "سكرة للمنصب الرفيع” و "سكرة لعلو المنزلة و ”سكرة للصيت العالي” و ”سكرة للفرح” و ”سكرة للخوف” و ”سكرة ُللنَّصْر و ”سكرة للفَزَع” و ”سكرة للطغيان” و ”سكرة للموت”، هناك ايضا “سكرة للسياسة والسلطة.” فالحب والطرب والفرح والنصر والمال والمنزلة والصيت والمنصب والتسلط والطغيان، كلها لها نشوة مُسكرة تذهب بالعقل، وتمنح اللذة له، وتغير من حالته، وتنقله الى عالم وردي وخيالي اخر، ويُصاب صاحبها بالكبر والغطرسة والاستغناء والاستعلاء، والازدراء لمن هو دونه غنى أو مكانة أو قوة أو معرفة، ويعتريه وهم من الغرور أن لا أحد يبلغ مبلغه في العلم أو الجاه او المال او الصيت أو القوة. فعلي سبيل المثال نجد ان سكرة الحب لها إحساس جميل ولذة بالغة تفوق الوصف والتعبير. ومتى ارتفع مؤشر الاحساس بالحب تولدت النشوة وأصابت صاحبها بالسكر؛ كما حدث للسيدة أم كلثوم رحمها الله عندما خرجت علي المسرح تتغني بقصيدة الشاعر المصري إبراهيم ناجي التي يقول فيها: “هل رأى الحب سكارى مثلنا”، ومن جهة آخري، يُذكر القران الكريم الانسان وخصوصا الذي يتشبث بالحياة واصابه الغرور والاستغناء عن الغير بقول الله تعالي (في سورة ق، الآية 19): {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}، بمعني ذلك ما كنت تقدر على الفرار منه ولا الحيد عنه.

وعليه يمكن القول بان نشوة السكرة السياسية (وخصوصا عند السياسي المبتدي) شبيه بنشوة القوة عند الشباب، ففي هذه السن يكون الشاب مُفتخرا بما هو عليه من قوة واندفاع مما يجعله يتباهى ويفتخر ويستعرض ما هو عليه من القوة والنشاط والحيوية، ويستمر في ذلك حتى يسكر بها وينغمس في التهور والعبث واللهو وعدم احترام الآخر. وهذا السلوك يدفع بالكثير من الشباب الي ضياع افكارهم، وتحطم احلامهم، وخسارة اموالهم، قبل ان تنتهي سكرتهم.

أسباب انتشار ظاهرة السكرة السياسية

هناك عوامل واسباب عديدة تؤدي الي انتشار ظاهرة السكرة السياسية السائدة هذه الايام –  بين العديدة ممن يتعاطون السياسة في وطني ليبيا، لعل من أهمها:

1.  الفراغ السياسي 

الحقيقة ان كل مُتتبع للمشهد السياسي الليبي اليوم لا يجد الا التخبط الاداري، والانفلات الامني. والفساد المالي، والانهيار العسكري. وقد أصبح هذا الفراغ يتجسد في أشكال مختلفة والوان عديدة منها – غياب الاستقرار، وانهيار الثوابت التي تقوم عليها الدولة، واهتزاز الثقة بين ابناء الشعب، وغياب البرامج والمشاريع الوطنية والمنتجة، وهبوط مستوي الثقافة عموما والثقافة السياسية خصوصا الى أذني المستويات.

2. غياب مؤسسات الدولة 

لعله يمكن القول – وباختصار شديد – ان جزء كبير من عدم تحقيق القيم والمبادئ والاحلام، التي قامت من أجلها ثورة الــ 17 من فبراير هو الغياب شبه الكامل للمؤسسات المدنية والحديثة والقوية، وخصوصا المؤسسات الوسيطة، كالمحافظات او الولايات، في الدولة التي يمكنها تحويل تلك القيم والمبادي والأحلام إلى مشاريع وبرامج عملية وملموسة. بمعني آخر غياب المؤسسات القادرة على الانتقال من الأحلام والشعارات الثورية إلى واقع الدولة الجديدة التي يحلم بها كل ابناء السعب.

3. المراهقة السياسية 

المراهقة السياسية تعني هنا – وباختصار شديد – الفترة الزمنية اللازمة لانتقال شخص يرغب مزاولة السياسة من مرحلة الطفولة السياسية الي مرحلة النضج والرشد السياسي. والحقيقة المُرة ان كل متابع لتطور الأحداث السياسية في المشهد الليبي هذه الايام، من خلال الإعلام المقروء والمسموع والمرئي ومواقع التواصل الاجتماعي، سيقتنع بان الكثيرين ممن يتعاطون السياسة في ليبيا اليوم يعيشون مراهقتهم السياسية، والأسوأ من ذلك ان اغلبهم يفتقرون الي المعرفة والوعي والمقدرة على التقدير والحكمة في التعاطي مع المشكلات والأزمات والصراعات السياسية السائد في كل نواحي الوطن هذه الايام. وان جل هؤلاء تغلب عليهم العاطفة على العقل، والاندفاع والتهور على التريث، والتخبط على التخطيط، وعدم إدراك عواقب الامور على تحديد الاهداف والاتفاق عليها مُسبقا. ولعل ما يجب التذكير به في هذه العُجالة هو ان فترة المراهقة السياسية هي من أخطر وأحرج المراحل التي يمر بها كل من يُريد ان يتعاطى السياسة وخصوصا الشاب.

نتائج انتشار ظاهرة السكرة السياسية 

الحقيقة ان هناك نتائج ضارة عديدة لانتشار هذه الظاهرة لعل من أهمها:

1. فوضى التحليل السياسي

لقد أصبح الحديث في السياسة اليوم حديت الجميع وللجميع ومع الجميع، وسواء كان ذلك بمناسبة او بدون مناسبة. الي درجة ان أصبح الجميع يتحدث ويناقش ويُجادل ولا أحد يستمع. ومن المحزن ان النقاش تضمن امور الكثيرون لا يفهموا تفاصيلها، ولا خلفياتها، ولا من هو وراء اهدافها الحقيقية، وفي الكثير من الاحيان يتحول النقاش إلى سجال وجدال لا طائل من ورائه. ليس هذا فقط بل إن تخصص العلوم السياسية والدبلوماسية والعلاقات الدولية لم تشهد إباحية واستخفاف بها مثل ما نشهده هذه الأيام في ليبيا. فالكثير من المراهقين السياسيين أصبحوا لا يكتفون بوصف أنفسهم بالباحثين والمحللين السياسيين، بل ان بعضهم أضاف الي نفسه صفة الخبير الاستراتيجي والامني والعسكري والدستوري أيضاً… والمؤسف ان ما يقوله هؤلاء لا يزيد في اغلب الاحيان عن آراء وانطباعات خاصة وتخمين تفتقد للمعرفة المتخصصة والمنهجية العلمية، ولا يمتلك صاحبها رصيد معرفي سوى متابعة الأخبار وصفحات التواصل الاجتماعي وامتلاك القدرة على الكلام في اي مناسبة تتاح له.

2. سياسة ملء الفراغ والأجندات الأجنبية

سياسة ملء الفراغ هي سياسة ظهرت أثناء الحرب الباردة (1950 – 1989). وقد تم تبني هذه السياسة من قبل الاتحاد السوفيتي وحلفائه من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة آخري بعد انسحاب القوى الاستعمارية التقليدية من كل من أفريقيا وأسيا وامريكا اللاتينية والشرق الأوسط، وذلك باستخدام وسائل عديدة لعل منها:

(أ) وقوف الأجندات الغربية خلف التمويل الأجنبي للجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني والحركات النسوية في العالم الثالث وخصوصا العاملة في مجالات الديمقراطية والسلام وحقوق الإنسان.

(ب) وقوف الأجندات الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي خلف التمويل الأجنبي للنقابات العمالية والاتحادات الطلابية في دول العالم الثالث.

(جـ) تمويل الجمعيات العاملة في مجال حقوق المرأة والمؤسسات الداعمة لدور الشباب في ادارة الدولة.

(د) ظهور الاجندات الاجنبية ودورها الواضح هذه الايام في عرقلة عملية المصالحة الوطنية ومفاوضات الحوار الليبي وتشكيل حكومة التوافق الوطني.

3. الازمات الاقتصادية والاجتماعية 

لقد أدّى هذا الوضع السياسي وتصارع الاجندات الاجنبية في ليبيا الى تمزق النسيج الاجتماعي وارتفاع مؤشرات التضخّم المالي الذي يهدد الاقتصاد الوطني ويضرب السوق المالية ونسق المبادلات التجارية. وإذا تطورت هذه الأزمة الى الأسوأ كما هو متوقّع فان التداعيات ستكون كارثية على الجميع، وسيكون لها تداعيات اجتماعية عديدة سلبية وخطيرة، وذلك بانتشار العديد من مشاريع واجندات الفساد والتخريب وخصوصا الساعية لتقسيم ليبيا وزرع الفتن بين مكوناتها الاجتماعية.

الخلاصة 

لعله من المناسب أن أختم هذا المقال بالتأكيد على مجموعة من النقاط:

1. لابد ان نعي بأن نشوة السكرة السياسية التي تمر بها النخب الليبية اليوم قد سببت لنا أضرار كثيرة وخطير، وعليه فلابد ان نعمل على الا تستمر هذه الحالة إلى مدة زمنية طويلة. وعلينا ان ندرك ايضا بان تعاطي السياسة هو امر خطير إذا لم يكن علي اسس صحيحة ومُنطلقة من قيم ومبادي راسخة… فهل آن الأوان للنخب السياسية الليبية ان تستفيق من سكرتها.

2. لابد ان نُدرك بأنه، إذا كانت السياسة هي فنّ الممكن والفوز بأقل الخسائر كما يقولون، فإن النشوة السياسية هي طلب المستحيل والتكبر وخسران كل شيء. وعليه فلابد ان نعي بان القليل من نشوة السياسة ضار، والكثير منها قاتل. وان من اهم الاسلحة للقضاء على النشوة السياسية هو التزود بالمعرفة والمنهجية الصحيحة والوعي والإدراك والحكمة في التعاطي مع المشكلات والأزمات والصراعات السياسية.

3. لحماية الذين يعيشون مرحلة المراهقة السياسية، لابد من قيام الدولة بإصدار قانون واضح ينظم كيفية تدفق أي أموال ومساعدات خارجية سواء كانت هذه الاموال للحكومة أو للمنظمات غير الحكومية، وعلى ان يكون أساس هذا القانون الوضوح والعلانية والشفافية، وعلى ان تكون كل الانشطة المُمولة قانونية والا تمثل تدخلا في المعترك السياسي الليبي (اي ان يُحظر دعم كل الحملات الانتخابية والمنظمات والأحزاب السياسية… أو أي نشاطات سياسية آخري). ويجب ان يشترط هذا القانون مُطالبة كل المنظمات غير الحكومية ذات النشاط السياسي والمُمولة من الخارج بالتسجيل بصفتها وكيل أجنبي. وان يقوم أيضا الأشخاص الذين يعملون بصفتهم وكلاء لموكلين أجانب بتقدم تقارير دورية تكشف علنا عن علاقتهم بالموكلين الأجانب وعن كل نشاطاتهم وعن مداخيلهم ومصروفاتهم دعما لتلك النشاطات.

أيها الاحباب لعلنا نتفق ان أحوال وطننا تُدمي قلب كل انسان شريف، وأنها أوضاع لا تسر الا العدو. وعليه فرجائي ودعوتي لكل مواطنة ومواطن غيور على هذا الوطن الجريح، وخصوصا الذين يتعاطون السياسة، بان يتحرى الحقيقة دائما، وان لا يعمل على تأجيج مشاعر الاخرين، وان لا يقوم بإشعال نار الفتن، وان يعرف ماذا يستطيع ان يقدم لهذا الوطن ويقف عند ذلك.

مرة آخري لابد ان أذكركم يا أحباب بان هذا مجرد راي

أعتقد انه الصواب.. فمن أتى براي أحسن منه قبلناه 

ومن اتي براي يختلف عنه احترمناه..

وبدلك أدعو الله أن أكون قد وفقت في المساهمة في إنجاح ثورتنا المباركة، وبناء دولتنا الدستورية الثانية…

والله المستعان.

د. محمـد بالروين

berween@gmail.com

* لقد سبق لي نشر هذا المقال في صحيفة “وطني” صحيفة أسبوعية شاملة. الصفحة (06) السنة الثالثة، العدد (104)، الاحد (ذو القعدة 1436 هـ) الموافق 16 أغسطس 2015. 

وفي موقع "عين ليبيا،" يوم الاحد 30 أغسطس 2015,  https://www.eanlibya.com/

وأيضا في موقع "ليبيا المستقبل " يوم 30 أغسطس 2015.                                             http://archive2.libya-al-mostakbal.org/news/clicked/78582

 

Sunday, October 18, 2020

ازمـة المقلدون الجدد

ازمـة المقلدون الجدد

اللامركزية التونسية،

  والإصرار على تقليدها في مشروع الدستور الليبي

د. محمـد بالرويـن

بداية دعونا نتفق بان "عادة التقليد" هي سنة من سنن الحياة، وكغيرها من السنن لها جانب إيجابي وجانب سلبي، وعلى الانسان الواعي العاقل الا يُقلد كل ما يري او يسمع او يقرأ. بمعني من جانب هناك تقليد حسن وجيد ومرغوب وجميل، فمن الذكاء ان ياخد به المرء، لأنه يوفر له الوقت والجهد والمال. ومن جانب آخر، هناك تقليد مدموم وضار وقبيح، ويُكلف صاحبه الكثير، ولن يعود على من يمارسه الا بالخسران واضاعة الوقت والجهد والمال. 

وعليه فكل من يريد ان يقلد ان يعي ان هناك معايير ومتطلبات يجب على المرء الالتزام بها لكي يكون تقليده مفيدا وناجحا ومناسبا وجميلا، ولعل من أهم هذه المعايير - ان "التجارب" لا تقلد, وانما تقلد "الممارسات الناجحة." أي الممارسات التي ثبت نجاحها وتعتبر أحسن الموجود Best Practices)).

من هذه المقدمة البسيطة، يمكن للمرء ان يسأل: هل ما قام به أعضاء من الهيئة التأسيسية المؤيدون لمشروع الدستور، والمقلدون للتجربة التونسية، واقتباسهم بابا كامل من دستورها (أي الباب السابع المتعلق بالسلطة المحلية - مع بعض الإضافات والتعديلات التي جعلته أسوأ مما هو موجود في الدستور التونسي). بمعني آخر هل يجب تقليد هذه التجربة التي لم تنجح بعد وتمر الان بمخاض عسير ومعقد؟ وهل يمكن اعتبار هذا القليد مفيد ومناسب للخصوصية الليبية؟ ام انه مجرد تقليد اعمي لا أساس علمي له وسيقود حتما الي تفكيك وتفتيت ما تبقي من الدولة الليبية؟ لكي نتعرف على هذا النوع من التقليد، دعونا نُقيم التجربة التونسية مند اعتماد دستورها في يناير 2014.

في 26 أبريل 2018 - وبعد صراع سياسي وجهوي على المصالح والمكاسب، استمر أكثر من أربع سنوات بين الأحزاب والتكتلات والتجمعات السياسية والجهوية في تونس - صادق البرلمان التونسي، وبأسلوب المغالبة العددية وليس بالتوافق (أي بأغلبية 147 صوتا من أصل 217)، على مشروع قانون مجلة الجماعات المحلية. والذي تضمن 392 مادة، وأصبح بذلك الإطار القانوني للانتخابات المحلية، وحدد صلاحيات واختصاص وحدود السلطات المحلية, وكيفية تكوين مجالسها، وغيرها من المهام الأخرى.

ماذا قالوا في هذا القانون

منذ صدور هذا القانون، أصبح عرضة للنقاش والجدال، وعبَّر عدد كبير من المختصين في الشؤون المحلّية، والمُمارسين للعمل البلدي، والعديد من أساتذة الجامعات والباحثين ورجال الإعلام، وكذلك الكثيرين من أصحاب التجارب العملية في الإدارتين المركزية والمحلية. وفي هذه العجالة يمكن تلخَّيص بعض من أهم هذه الانتقادات والملاحظات كالاتي:

أولا: تقول جريدة " أصوات مغاربية" الإلكترونية في عددها يوم 01 مايو 2018, ان ".. الساحة السياسية في تونس تعيش ، انقساما حادا بعد المصادقة على مجلة الجماعات المحلية الجديدة، ​​ويعبر جزء من الفاعلين السياسيين في البلاد عن مخاوف كبيرة فيما يتعلّق بالقانون الجديد، خاصة في قضية تماسك الدولة.. ويشير بعضهم إلى وجود مخاوف كبرى من انزلاق البلاد إلى تصادمات مع المركز، ويحذروا بإن "إرساء اللامركزية التي نص عليها دستور البلاد، يتطلب التريث قبل تطبيقها بشكل كامل." (أصوات مغاربية, 2018).

ثانيا: يعلق الأستاذ فتحي العيوني، رئيس بلدية الكرم، في مداخلة له على موقع “الصدى نت” فيقول ان التكريس الفعلي لمفهوم السلطة المحلية غائب في تونس.. وانه "يوجد صراع تموقع بين السلطة المركزية والسلطة المحلية،".. وان "العلاقة بين المركزي والإقليمي والجهوي والمحلّي، وبين الإقليمي والجهوي، وبين الجهوي والمحلّي، غير واضحة المعالم،" وان "المجلة الجديدة جعلت العلاقة بين ممثل السلطة المركزية (الوالي) ورؤساء الجماعات المحلية مبنية، لا على أساس مبدأ ممارسة الإشراف، وإنَّما على أساس شبه التساوي بين الطرف الأول والثاني،" وقال إن "تجربة الحكم المحلي فيها نوعا ما من الحيلة، إذ وقع تصدير الأزمة الاقتصادية والاجتماعية من المركز إلى البلدية التي لا سلطة لها فعلية في مقاومة الاحتجاجات والاعتصامات والتحديات الاقتصادية." وفي النهاية ختم السيد رئيس بلدية الكرم، فتحي العيوني، حديثه بالقول "أن تجربة الحكم المحلي في تونس مهددة بالسقوط والفشل لأن تعامل السلطة المركزية مع الحكم المحلي فيه نوع من الشد إلى الوراء." (راجع: نورالدين فردي, الصدى, 2020).

ثالثا: اكد التقرير السنوي حول تقدم اللامركزية الي ان "تُعَد تجربة اللامركزية التونسية مسارا شديد التعقيد في تحقيقه. فهو يتطلّب صياغة مشروعٍ سياسي ومؤسّسي ومالي حقيقي، تترابط عناصره لتصنع نظاماً متكاملاً." ويستمر في القول بانه "لا شك أن إرساء اللامركزية يؤثّر في بناء الدولة والنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لذا يجب قبل الدفع بأيّة سياسة لإرساء اللامركزية، أخذ كل تلك العناصر في الاعتبار." (راجع: نورالدين فردي, الصدى, 2020).

رابعا: ذكرت ‏شبكة إرم الإخبارية التي تهتم بآخر الأخبار من الوطن العربي، في 27 أكتوبر 2019, بان "شهدت عدة مجالس محلية في تونس، استقالات جماعية، نتيجة خلافات سياسية وصعوبات مالية، في مشهد بات يهدد تجربة الحكم المحلي..." وقد أثار هذا في الاواسط السياسية العديد من المخاوف من أن يؤدي الحكم المحلي إلى خلق خلافات تُضعف النسيج المجتمعي والعلاقات بين المناطق والمدن المتجاورة،" (للمزيد راجع: موقع إرم نيوز, 27 أكتوبر 2019).

خامسا: يقول الدكتور لطفي طرشونة، أستاذ القانون العام بجامعة سوسة، تونس، بان "من بين التحدّيات المتعلّقة بالتطبيق، يجب أن نذكر عدم وضوح بعض المبادئ التي ارساها الدستور؛ منها "مبدا التفريع،" و "مبدأ التدبير الحر،" والذي لا يبدو أنه يحمل دلالةً مختلفة عن "مبدأ استقلالية الجماعات المحلّية" الذي حدّده الدستور.. ذلك أن تعدد المبادئ ذات المحتوى المتقارب يوشك على تعقيد مهمّة مفسِّري الدستور،"(راجع: طرشونة, 2019).

سادسا: يقول الاستاد عبد الوهاب الجمل، والي وسفير سابقًا, ان العلاقة بين المركزي والإقليمي والجهوي والمحلّي، وبين الإقليمي والجهوي، وبين الجهوي والمحلّي، غير واضحة، لأنَّ هناك خلط بين صلاحيات هذه الدرجات الأربع من الحُكم، وهو ما يستدعي تحديد الصلاحيات والنظر بدقَّة وبحكمة في كيفية تقسيمها بين مختلف الدرجات," ويستطرد قائلا ان القانون الجديد " جعل العلاقة بين ممثل السلطة المركزية (الوالي) ورؤساء الجماعات المحلية مبنية، لا على أساس مبدأ ممارسة الإشراف، وإنَّما على أساس شبه التساوي بينه وبينهم, ممَّا سيتسبَّب, إلى جانب الحطّ من مكانة الوالي، مُمثّل السلط المركزية , في تعطيل بعض الأعمال وإهدار المجهودات والوقت في التقاضي والتظلُّم.. ويري بعض المُلاحظين أنَّ هذا الإصلاح لا يعتبر الدولة التونسية موحَّدة، بل هو يتعامل معها وكأنَّها دولة اتّحادية أو كونفدرالية، وأنَّه بذلك يُمثِّلُ خطرًا على تماسك النظام القانوني للدولة وعلى التوازنات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد.. ويجدر التأكيد أنَّ هذا الإصلاح الجوهري والعميق، يتطلَّبُ أساسًا إذا ما اريد له النجاح، "(راجع: الجمل, 2018).

سابعا: اما أستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك، فينتقد في تصريح لـ عربي بوست، "بان السلطة المركزية يمكن أن تلعب دور الرقابة، لكونها تتحكم في الموارد المالية للمجالس البلدية، مشيراً إلى أن هذه الاستقلالية تتسم بالضبابية." اما أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد (قبل ان يصبح رئيسا لتونس) فقد صرح لـ "عربي بوست"، إن "قانون الجماعات المحلية ما زال مجرد نصوص، لم تخضع للممارسة. وأن تجربة الحكم المحلي تبقى تجربة ...،" (راجع: عربي بوست, 2018).

ثامنا وأخيرا، لعله من المناسب ان اختتم هذه التعليقات والملاحظات حول قانون السلطة المحلية في تونس، بما قاله المحلل السياسي التونسي أحمد العثماني "إن تجربة الحكم المحلي في تونس تواجه تحديًا كبيرًا نتيجة التركيبة غير المتجانسة للمجالس المحلية والصراعات السياسية والقبلية داخلها، (راجع: موقع إرم نيوز, 27 أكتوبر 2019).

الخلاصة

لعله من المناسب ان أُذكر القاري والمقلدون الجدد لتجربة اللامركزية التونسية، وبعد ان شهد شاهدا من أهلها، بأهم الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من هذه الملاحظات والانتقادات المذكورة أعلاه، وهي كالاتي:

(1) يمكن استخلاص ان تجربة اللامركزية التونسية لا تزال في مرحلة التجريب، وان  كل المؤشرات والتحليلات تدل على انها تمر بمسار خطير وشديد التعقيد، وعليه يجب قبل المطالبة بتقليدها والاستدلال بها، أخذ كل متطلبات الحيطة والحذر في الاعتبار.

(2) ان التجربة التونسية تتضمن العديد من المصطلحات والمفاهيم والمباديْ الغامضة والمكرَّرة والمتشابكة، وذات الدلالاتٍ شديدة التقارب، مثل "اللامركزية" و "الحكم المحلي،" و "الاستقلالية،" و "التسيير الذاتي،" و "حرية التصرف." وعليه يجب قبل محاولة تقليد هذه التجربة تجنّب استخدام مبادئ مكرَّرة أو متشابكة أو ذات دلالاتٍ متقاربة مثل التي ذكرتها أعلاه.

(3) من الواضح ان التجربة التونسية لم تحدد العلاقة بين الجماعات المحلّية والسلطة المركزية بوضوح. والحقيقة انه لن تتحقّق اللامركزي الإدارية والسياسية والاقتصادية دون تمتع الجماعاتِ المحلية بصلاحيّاتٍ فعلية ومُدسترة، بمعني لابد أن يحدّد الدستور وبشكلٍ واضح وصريح المبادئ التي تحكم عملية توزيع الاختصاصات بين المركز والاطراف. بمعني يجب الا تترك عملية توزيع الاختصاصات للسلطات المركزية لتقرر ماذا تعطي وماذا تأخذ. وبمعني أخر، وباختصار شديد, يجب دسترة الاختصاصات وعدم تسيسها وتركها للسياسيين يعبثون بها كما يشاؤوا.

4. علينا ان نذرك أيضا بان المجالس البلدية والجهوية والاقاليم هي حلقات الوصل الرئيسة والضرورية والمهمة بين المواطن والسلطات المركزية، وان التّقسيم الإداري والسياسي يقوم في العادة على ثنائيّة المركز والأطراف. والحقيقة ان التجربة التونسية – في هذا الجانب - قد تم التوافق على تقسم الجمهورية التونسية الي 6 أقاليم, و24 ولاية والتي تقسم بدورها إلى 264 معتمدية (يتراسها معتمد) , وكذلك 350 بلدية (يتراسها  رئيس بلدية), والي اصغر تقسيم اداري 2073 عمادة (يتراسها عمدة).

اما في الوضع الليبي فلا يوجد – للأسف الشديد - حتى الان الا مستوي اداري واحد للأطراف هو مستوي البلديات التي يقدر عددها بــ 109 بلدية، بعضها قد يكون وهمي (او ما يُعرف ببلدية الشنطة) - ومما زاد الطين بلة كما يقولون - قيام السيد علي زيدن المحترم برفع هذه البلديات الي مستوي محافظات! ولا يوجد حتى الان مستوي اداري اخر في الدولة اعلي من هذا المستوي! بمعني اخر، في ليبيا لا يوجد توافق بين السياسيين ولا الفاعلين الاداريين، لا على مستوي المركز، ولا على مستوي مُكونات الأطراف في الدولة. وعليه فعلي أي "اللامركزية" يتحدث المقلدون الجدد للتجربة التونسية، ومن الذي سيقوم بتحديد هذه المستويات وتعريف اختصاصاتها؟!

5. واخير، على المقلدون الجدد ان يعوا، ان مصطلحات عديدة كــ "الحكم المحلي،" او "السلطة المحلية،" او "الإدارة المحلية،" او "اللامركزية،" او "اللامركزية الموسعة،" او "التدبير الحر," او "التفريع," في مشروع الدستور المقترح، قبل أن تكون قوانين وقرارات ولوائح واجراءات, هي في الحقيقة وبالدرجة الاولي "سلوك" و "عقلية." وبالتالي فلابد من ضبط وتحديد معني هذه المصطلحات والمفاهيم المكونة لمفهوم السلطة، وتوضيح مهمتها وعلاقتها مع مؤسسات الدولة الإدارية والسياسية والاقتصادية المختلفة. وحتى لا نقع في المحظور، يجب الا نقوم بتفكيك وتفتت مركزية السلطات - التي يحلم ويبشر بها بعض المقلدين – دون تخطيط وتنظيم وتنسيق لكل مكوناتها. بمعني اخر, يجب قبل الفصل بين السلطات وتقاسمها, ان يتم التوافق على الضوابط والتوازنات بين عناصر ومكونات نظام الحكم ومؤسساته المختلفة.

 وعلينا ان نتذكر، انه من السهل ان تفكك وتفتت الأشياء، فالكل يستطيع القيام بذلك، ولكن علينا ايضا ان نعي انه من الصعب ان تجعلها تعمل مع بعضها البعض كما يجب, ولتحقيق الأهداف المشتركة والمنشودة. فهل ادرك المقلدون الجدد الدرس؟ وهل آن الأوان لهم ان يعيدوا النظر في تقليدهم، وان يفتحوا هذا المشروع من جديد لمناقشة أهم الإشكاليات الجوهرية العالقة فيه؟ وان تكون هناك مناظرات متلفزة ومنقولة على الهواء حول هذه الإشكاليات، حتي يتعرف اهالينا في كل ربوع الوطن، على ما هم قادمون على الاستفتاء عليه، وحتي لا تسوق لهم بضاعة فاسدة وضارة، تحت شعار ان هذا المشروع    هو الحل النهائي لكل مشاكلهم العالقة والمؤلمة؟ فالقضية - يا سادة يا كرام - ليست في الاستفتاء كألية او مطلب قانوني، ولكن القضية هي - على أي شيء يُستفتي المواطن البسيط؟ وبمعني آخر, ما الذي نريد المواطن البسيط ان يصوت عليه بـ نعم؟ فهل آن لكم أيها السيدات والسادة المحترمون انصار هذا المشروع, ان تدركوا حجم هذا التحدي، ام انكم لازلتم تعيشون حالة ما يمكن ان نطلق عليه بــ "أزمة المقلدون الجدد،" الذين لا يعترفون بأخطائهم، ولا يتراجعون على ما اقدموا عليه! ادعو الله ان الا يكون ذلك، وان تدركوا خطر ما انتم تطالبون به.

في الختام, 

لا تنسوا يا احباب ان هذا مجرد راي، 

فمن أتي براي أحسن منه قبلناه، 

ومن أتي براي يختلف عنه احترمناه. 

والله المســـتعـان.

[[ ملاحظة مهمة: اذا ترغب في معرفة المواد المُقتبسة من الدستور التونسي, أقرا مقال: "مقارنة باب الحكم المحلي بين الدستور التونسي ومشروع مجموعة من أعضاء الهيئة: إساءة فهم أم مُقارنة خاطئة]]... لمعرفة التفاصيل،

د. محمـد بالروين

berween@gmail.com

 

========= 

مراجع:

أصوات مغاربية, 01 مايو 2018, السلطة المحلية في تونس: الديمقراطية والمخاوف.  https://www.maghrebvoices.com/2018/05/01/

                                         

موقع الشرق الأوسط, 20 مارس 2017. الغموض يكتنف موعد تنظيم الانتخابات المحلية في تونس.         Middle East Online

                                                                https://meo.news/en/node/575416

      

نور الدين فردي, 08 أكتوبر 2019, الصدى نت, الحكم المحلي في تونس: الخيار ”المدستر” ومخاوف الردة.  https://essada.net/

لطفي طرشونة, 31 يوليو 2019 , "ورقة بحثية بعنوان: التجربة التونسية في إرساء اللامركزية منذ عام 2014." https://www.arab-reform.net/ar/publication/

عبد الوهاب الجمل, 17 أكتوبر 2018, "في الحُكم المحلّي: النظري والتطبيقي." https://www.lediplomate.tn/

عربي بوست , 08 مايو, 2018, " انتهت الانتخابات البلدية في تونس ولكن التحدي الأكبر بدأ للتو.. لماذا يخاف البعض من تجربة الحكم المحلي الجديدة؟  https://arabicpost.net/

إرم نيوز, 27 أكتوبر 2019, " استقالات جماعية تهدد تجربة الحكم المحلي في تونس."  https://sahafahnet.com/show6530489.html

 

 

 

أخر مقالات نشرتها