Monday, June 24, 2019

رسـالة مفتوحة الي السيد غسان سلامة,

مع السلامة .. يا سلامه 
مع فائق القدير والاحترام

رسـالة مفتوحة الي السيد غسان سلامة,
مبعوث الامم المتحدة ورئيس بعثة الدعم الي ليبيا


24 – 06 – 2019

السيد المحترم غسان سلامة                             
تحية طيبة وبعد       

لقد أستبشر الليبيين خيرا عند بداية قدومك لليبيا وأستلامك لمهمة مبعوث أممي ورئيس لبعثة الدعم الي ليبيا, خصوصا وانك عربي تتحدث لغتهم وتعرف تاريخهم وعايشت تجاربهم السياسية, ولك تجارب عديد لمحاولة حل الصراعات في هذه المنطقة, وخصوصا في لبنان والعراق وسوريا. وبالاضافة لكل ذلك أعتقادهم في:

(أ)
  أنك كمبعوث اممي جديد, تختلف عن الخمس مبعوثين السابقين, وبذلك أنك ستسعي جاداً في مساعدتهم ودعمهم لإيجاد الحلول العملية والمناسبة للتعامل مع التحديات التي تواجههم.

(ب)
  أنك كمبعوث اممي جديد, قد تساعدهم في الوصول الي شاطي الامان, وذلك بالعمل علي إشارك كل الفرقاء السياسيين, والسعي لفتح قنوات التعاون والتشاور بينهم.

(جـ) 
 أنك كمبعوث اممي جديد, تدرك جيداً بأن دورك مُنحصر في مجرد "الدعم" لتحقيق  أهداف ثورة الشعب الليبي التي إنطلقت في 17 فبراير 2011, والتي تهدف بالدرجة الاولي لتحقيق مبادي الحرية والإستقرار والعدالة وقيام دولة ديمقراطية مدنية مزدهرة.

(د)
  أنك كمبعوث اممي جديد, قد أدركت – ومند زياراتك الأولي لليبيا - أن جُل الليبيين قد تعبوا وسأموا من هذه الظروف الصعبة والمُزرية التي يعيشونها هذه الايام, وأصبحوا مستعدين ومُصرين علي الوصول لحلول مناسبة للخروج من هذا الوضع مهما كلف الثمن.

ولكن ... وللأسف الشديد!!!
بدلا من إنتهازك وأستثمارك لهذه الفرص التاريخية والظروف المناسبة للقيام بدورك الحقيقي, والمُكلف به من قِبل الأمم المتحد, وذلك بدعم الجهود المبدولة من النخب الوطنية, ومساعدة كل الليبيين الذين كانوا ينتظرون في أقتراحاتك ومبادراتك, وقيامك بلعب دور الحياد بين كل الاطراف المتنافسة والمتصارعة ومحاولة تقريب وجهات النظر بينها, بدلا من كل ذلك تحولت وبقدرة قاد للإسف الشديد: (أ) من طرف "مُحايد"و "داعم" الي سياسي "مُتحيز!" وتحمل "أجندة خفية." و(ب) من مجرد موظف يمثل الامم المتحدة الي لعب دور "الحاكم الفعلي," بإسلوب فوقي وأملائي! مليء بالوعظ والاشاد والتوجية!

ويبقي السؤال؟ 
                                                                                يبقي السؤال المهم الان – عند جُلّ الليبيين هذه الايام هو: هل فقد السيد غسان سلامة "حياديته" و "مصداقيته" وبذلك أنتهاء دوره كممثل فعلي وحقيقي للإمم المتحدة؟ بمعني آخر هل يستطيع السيد سلامة – بعد أنتهاء هذه الحرب القدرة الدائرة علي أسوار طرابلس, وبعد هذه الأخطاء الكارثية التي أرتكبها في التعامل معها, وبعد ان فقد ثقة الكثيرين من أبناء الشعب الليبي خاص النخب - ان يكون وسيطاً مُحايدا (أي علي مسافة متساوية من كل الاطراف المتصارعة), وداعما لكل الجهود المبدولة لإعادة بناء الدولة, وهل فعلا مستعداً وقادراً علي ان يقف علي مسافة واحدة من كل أطراف النزاع بغض النظر عن أنتمائتهم ومعتقداتهم وعلاقاتهم الداخلية والدولية؟!!

الاجابة
في أعتقادي المتواضع, ومع احترامي الشديد لك يا سيد غسان سلامة, ان الأجابة علي السؤال أعلاه هي - بالنفي. وهذا يعني وبأختصار شديد , انه لم يبق أمامك يا سيادة المبعوث الأممي الا الرحيل. بمعني أخر ان ترحل وتترك المشهد الليبي لليبيين أنفسهم, وذلك لإسباب عديدة لعل من أهمها:

أولا:
 يبدو انك يا سيد سلامة (كغيره من المبعوثين الخمس السابقين للامم المتحدة) لم تكن "جاداً" في السعي لتحقيق السلام والامن والاستقرار في ليبيا بقدر ما كنت تسعي لتحقيق مكاسب شخصية لتضيفها الي سيرتك الذاتية, وبذلك لم تكن مستعدا للعب دور الحياد وعدم الانحيازلإي طرف من اطراف الصراع دون الآخر! وهنا يمكن الاستنتاج بأن جُلّ ما حققه المبعوثين السابقين الذين جاءوا الي مساعدة و دعم الشعب الليبي (بما فيهم انت) – وللإسف الشديد - هو زيادة تعقيد المشهد السياسي والازمة الراهنة وأستمرار الفوضي وارتفاع درجة العدائية والاحتقان بين الفرقاء في الشارع الليبي, وما الهجوم الاخير علي العاصمة طرابلس الا أكبر ذليل علي ما نقول!!

ثانيا:
 عجزك يا سيد سلامة الواضح (أوعلي الأقل عدم جديتك) في إيقاف التدخلات الخارجية السافرة في الشؤون الداخلية الليبية, وخصوصا تدخلات مصر والامارات والسعودية وفرنسا لمساعدة حفتر من جهة, وتدخلات قطر وتركيا في مساعدة بعض القوي السياسية في المنطقة الغربية من جهة آخري!

ثالثا:
 من المؤسف حقا انك يا سيد سلامة قد نسيت (وربما تناسيت) دورك الحقيق "كداعم," وهو الدور المُكلف به رسمياً من قبل الامم المتحدة, وتقمصت –  للإسف -  أدوار آخري كــ: "لعب دور الأستادية" و "الوصاية" والادعاء بأنك تعرف ماهي مصلحة الشعب الليبي أكثر  من الليبيين أنفسهم! وإنطلاقاً من ذلك قامت بإختيار من يجب ان يمثلهم, وكيف يجب ان يكون مستقبلهم!! ولعل محاولتك الفاشلة الآخير في عقد ما أسميته بــ "المؤتمر الجامع" لأكبر ذليل علي ما أقول. فبدلا من ان تُشرك كل شرائح الشعب الليبي الفاعلة علي الارض, حتي ينجح هذا المؤتمر ويكون فعلاً مؤتمر وطنياً جامعاً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معني, قامت بتحويل هذا الاجتماع الي مُجرد لقاء سري ومغلق ونخبوي! ليس هذا فقط بل قمت بإختار الأعضاء المدعوين لهذا اللقاء, وحددت عدد أعضائه, ووضعت (دون أستشارة القوي الفاعل) الاجندة التي سيتم مناقشتها فيه, وحددت مكان أجتماعه, وتاريخ ومدة أنعقاده, والاسؤ من كل ذلك هو انك قمت بتوزيع الادوار والمناصب السيادية بين مجموعة صغير من المشاركين الذين تعاونوا معك, وحددت النتائج المتوقعة من هذا اللقاء سلفاً, أذ قامت بإختيار (بالتعاون مع هذه المجموعة السرية الصغير) من سيكون رئيس للمجلس الرئاسي القادم, ومن سيكون رئيسا للوزراء, ومن سيكون القائد العام للجيش الليبي! وأتفقتوا علي يتم تمرير هذه الاجندة في جلسة قصيرة وسريعة وتحت شعار مبدأ "التوافق!" فهل يُعقل هذا الاستخفاف بالشعب الليبي ومُكوناته يا سيد سلامة!!! والحقيقة التي لا جدال فيها انه لولا حماقة حفتر, وقيامه بالهجوم المفأجي علي العاصمة طرابلس قبل موعد إنعقاد هذا المؤتمر الجامع, لتحققت لك يا سيد سلامة ما كانت تحلم به, ولدخلت ليبيا الي مرحلة أنتقالية جديدة لا احد يعرف ماذا ستكون نتائجها النهائية!

رابعا:
  في الوقت الذي هاجمت فيه الطبقة السياسية في ليبيا لمرات عديدة, وإتهمتها بكل أنواع الفساد, وبأنها تنهب في أموال الليبيين وتقوم بأستثمارها خارج ليبيا, وأنها طبقة تسعي من أجل مصالحها الشخصية الضيقة. وان هؤلاء السياسيين الفاسدين متمسكين بمناصبهم لأنها تسمح لهم بنهب الثروة وإستغلالها.  

وفي الوقت الذي قمت فيه يا سيد سلامة بفتح النار على مُتصدري المشهد السياسي وقولك: ".. لا أريد أن أطمئن الفئة الحاكمة؛ أريد أن أطمئن الليبيين بأن مصلحتهم هي النجمة التي تشير إلى كيف أسير.. لا أريد أن أطمئن الطبقة السياسية في ليبيا الي لديها مستوى عالٍ من الفساد، والتقاتل على الكيكة، ومن عدم الاهتمام بمواطنيها الفقراء البؤساء بشكل يندى له الجبين," في هذا الوقت نكتشف بان جُلّ الذين كنت تنوي دعوتهم لمؤتمرك الجامع الذي كان من المفترض ان ينعقد في مدينة غدامس يوم 14 مايو 2019, هم من هذه الطبقة السياسية التي وصفتها بالفساد والانتهازية وتحقيق المصالح الشخصية الضيقة, وتجاهلت السواد الاعظم من أبناء الشعب الشرفاء, وكأن ليبيا في نظرك يا سيد سلامة لم تنجب الا هؤلاء؟ وان الازمة الليبية لا يمكن حلها الا بالتوافق بين هؤلاء!!

الخلاصة
                                                                                          مما ذكرته أعلاه وغيره الكثير, يمكن لكل العقلاء الوصول الي نتيجة واحدة و وحيدة مفادها ان السيد المحترم غسان سلامة, بصفته مبعوث أممي ورئيس لبعثة الدعم في ليبيا, قد فقد مصداقيته بين جُلّ الليبيين وتحول من داعم ووسيط صادق وأمين ومُحايد الي سياسي منحاز لإحد الاطراف المتصارعة وبذلك يكون قد فقد فرصة ثمينة وحيوية لإنهاء المرحلة الانتقالية في ليبيا والمساهمة في إيجاد حل للازمة السياسية وإعادة بناء الدولة الليبية المنشودة... وفي أعتقادي المتواضع, لم يبقي للسيد غسان سلامة المحترم الا خيار مُشرف و وحيد هو مغادرة منصبه مشكورا , وترك القضية الليبية لإبناءها الوطنيين الشرفاء لمحاولة حلها بإنفسهم, وانا علي ثقة بأنهم قادرون علي تحقيق ذلك ...

والله المستعان.

                                                          د. محمـد بالروين

Sunday, January 20, 2019

الدولة المدنية شـعار أم مشـروع

الدولة المدنية : شعار أم مشروع 
د. محمـد بالروين

يسود الساحة السياسية هذه الأيام شعارات "مُركبة" عديدة, ترددها كل النُخب بغض النظر عن خلفياتها الايدولوجية والفكرية! وترفعها وتنادي بها جُل الكيانات المجتمعية والأحزاب والتيارات والتكتلات السياسية! هذه الشعارات تشترك جميعها في مصطلح واحد هو "المدنية!" ولعل من أهم هذه الشعارات المتداولة هذه الأيام هي: "المجتمع المدني," و"التيار المدني," و"التكتل المدني," و"التجمع المدني," و"الدولة المدنية."  في هذا المقال المُختصر سيقتصر حديثي حول شعار واحد هو مصطلح "الدولة المدنية."

والغريب أن هذا الشعار لقد أصبح يتردد  كثيرا في الساحات السياسية العربية, وخصوصا منذ انطلاق ما عُرف بـ "ثورات الربيع العربي" في عام 2011. ففي كل المناسبات, السياسية والدينية والاجتماعية، وفي أغلب المظاهرات والتجمعات السياسية, ومن أغلب السياسيين بمختلف توجهاتهم ومعتقداتها، بل يمكن القول حتى في نقاشات الكثير من المواطنين العاديين, أصبحت المطالبة بالدولة المدنية هدف من الأهداف الأساسية, سوا كان هؤلاء يعوا معنى ومضمون هذا الشعار أو يجهلوه! وعليه دعونا نحاول فهم ماذا تقصد هذه النُخب والجماهير بشعار - الدولة المدنية؟ وما هي أهم مكونات هذا الشعار ومبادئه الأساسية؟ وهل فعلا هناك اتفاق أو إجماع بين هذه النُخب والجماهير على تعريف هذا الشعار؟ وما هو المصطلح المُضاد له؟

ماهية الدولة المدنية؟
في الحقيقة إن شعار "الدولة المدنية," هو شعار "مُركب," يتكون من مصطلحين: الأول هو "الدولة," والثاني هو "المدنية." والحقيقة أيضا أن مفهوم الدولة -- كما هو معروف اليوم – هو مفهوم جديد نسبيا. وإن الكثير من علماء السياسة والاجتماع (وخصوصا في الغرب) يُرجع هذا المفهوم إلى نهاية الحرب التي عُرفت في التاريخ الأوروبي بحرب الثلاثين عام (1618 – 1648). تلك الحرب التي كانت بين الكاثوليك والبروتوستنت فيما يعرف الآن بالمانيا. هذه الحرب التي كانت اأخر حرب دينية في أوروبا وكان من أهم نتائجها عقد ما عُرف باتفاقية "سلام وستفيليا... 

في هذه العجالة يمكن تعريف الدولة على أنها كل المؤسسات السياسية والقانونية المُنبثقة عن إرادة شعب (أو شعوب) يعيش على قطعة جغرافية معينة ذات حدود معترف بها ولها حكومة مستقلة ذات سيادة كاملة, بمعني آخر وباختصار شديد: الدولة =  أرض +  شعب (أو شعوب)  + حكومة + سيادة, "(للمزيد راجع: بالروين, 2008). أما مُصطلح "المدنية," فلغة يعني كل ما نسب إلى المدينة، بمعني كل ما يُنسب إلى المدينة هو «مدني». وطالما أن مصطلح «الدولة المدنية» هو مصطلح حديث نسبياً، فيجب ألا نحكم عليه بناءً على معناه ودلالته اللغوية, بل يجب محاولة فهمه وفقاً لمعناه ودلالته التي قصدها الذين يرفعون هذا الشعار. ولعله من المناسب هنا التأكيد على بعض الحقائق قبل التطرق إلى تعريفات بعض النخب لهذا الشعار كالآتي: 

(أ) إن هذا المصطلح حديث من وجهة النظر العلمية والفكرية. وفي هذا الشأن يقول الأستاذ محـمد كامل محـمد, باحث بمركز الحضارة للعلوم السياسية, ".. بالرجوع إلى قواميس المفاهيم والمصطلحات السياسية يتبيّن أنه لا توجد في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية ما يسمى بالدولة المدنية، لكن هناك الدولة الحديثة والدولة العلمانية، كما أن الفكر السياسي الغربي لا يعرف هذا المفهوم," (للمزيد راجع: كمال محمد, 2011). 

(ب) إن هذا المصطلح هو مجرد شعار محلي, أي انه مجرد مصطلح عربي (لم يتم تطبيقه على أرض الواقع   حتى الآن) أكثر من أي شيء آخر. وفي هذا الصدد يقول الأستاذ والباحث السوري عبد الكريم الجباع بأن "مصطلح الدولة المدنية هو محلي وليس سياسي أو معنوي ولا ينتمي إلى مجال العلوم السياسية أو الفلسفة السياسية" (للمزيد راجع: الجباع, 2013).

وكنتيجة لحداثة هذا المصطلح وطبيعة تركيبته, لم يتم حتى الآن الاتفاق بين النخب السياسية والفكرية على تعريف واحد يمكن الإجماع عليه للدولة المدنية, ويتحدد بذلك مفهومها ومحتواها ومرجعيتها ومتطلباتها. ولتوضيح ما اقصده في هذا الشأن, يمكن الإشارة إلى نماذج من تعريفات لهذا المصطلح, والتي تم طرحها منذ عام 2011 وحتى الآن:

1. تُعرف الأستاذة ياسمين أبو الحجاج عبد الراضي, الباحثة بالمركز الديمقراطي العربي, في مقال لها عام 2014 بعنوان "تحليل مفهوم الدولة المدنية," الدولة المدنية بأنها "الدولة التي تطبق العدالة والمساواة واحترام القوانين والديمقراطية والسلم الاجتماعي واحترام حرية الأديان وفصل الدين عن السياسة,". (للمزيد راجع: عبد الراضي, 2017).


2. أما الاستاد محمـد المعالج, رئيس اتحاد الناشرين التونسيين, في مقال له عام 2018 بعنوان "عن الدولة المدنية" يُعرف الدولة المدنية على أنها "تمثل إرادة الشعب وعلوية القانون الذي يستمد قوته من علوية الدستور بما هو أعلى سلطة في الدولة... كما تعترف بمبدأ التعددية وتقبل الاختلاف الذي لا يفسد في نهاية المطاف للود قضية. إضافة إلى ذلك، فإن نظامها ديمقراطي يقوم فيما يقوم على نبذ الاستبداد وتكريس نظام التداول السلمي على السلطة" (للمزيد راجع: المعالج, 2018).
 
3. أما الأستاذ أحمد برقاوي, مدير الشؤون الأكاديمية في مركز الشرق للبحوث, وبروفيسور ورئيس قسم الفلسفة في جامعة دمشق, في مقال له عام 2017 بعنوان "في الدولة المدنية," يُعرف الدولة المدنية على أنها "تلك الدولة التي تنشأ وفق معايير المواطنة المعاصرة بوصفها ثمرة عقد وطني واجتماعي تم بناؤه بشكل حر, بالإضافة إلى معايير المحافظة على الحق الطبيعي والحق الاجتماعي للأفراد,"( للمزيد راجع: برقاوي, 2017).
4. أما الأستاذ عريب الرنتاوي, مدير عام مركز القدس للدراسات الإستراتيجية والسياسية بالأردن, في مقال له عام 2017 بعنوان "علمانية الدولة شرط مدنيتها," يُعرف الدولة المدنية على أنها "مرادف للدولة العلمانية، أي الدولة المنفصلة عن الدين، والتي لا يشكّل الدين أساسًا لها، وتُقصي الدين عن السياسة والتشريع والحياة العامة"( للمزيد راجع: الزنتاوي, 2017).

5. أما الشيخ الدكتور غازي التوبة, عضو رابطة العلماء السوريين, في مقال له عام 2012 بعنوان "ما هي الدولة المدنية؟" يقول ".. كثر الحديث عن "الدولة المدنية"، فبعض الكتاب اعتبر أن "الدولة المدنية" تقابل "الدولة العسكرية"، لكن الحقيقة أن هذا المصطلح أوروبي وجاء في مقابل "الدولة الكنسية"، وهو قد جاء نتيجة تطورات غربية في القرون الوسطى في مجال الاجتماع والاقتصاد والسياسة... أوروبا في العصور الوسطى كانت تحكمها الكنيسة، وكان أبرز مفهومين تقوم عليهما المسيحية هما: المقدس والمدنس، فالمقدس هو الله والآخرة والروح، والمدنس هو الإنسان والدنيا والجسد والمرأة,"( للمزيد راجع: التوبة, 2012).

6. في موقع تورس,(تونس برس) موقع تونسي يقدم خدمة فريدة للأخبار, مقال بعنوان "مفهوم الدولة المدنية والعلمانية؟ والفرق بينها؟" عام 2012 عرف الدولة المدنية على أنها "... قيام دولة يكون الحكم فيها للشعب بطريقة ديمقراطية، ويكون أبناء الشعب فيها متساوين في الحقوق، ولا يكون فيها الحكم لرجال الدين أو للعسكر.. وعدم ممارسة الدولة ومؤسساتها أي تمييز بين المواطنين بسبب الاختلاف في الدين أو الجنس أو الخلفية الاجتماعية والجغرافية... بمعني مؤسسات الدولة يديرها مدنيون منتخبون يخضعون للمساءلة والمحاسبة، ولا تدار الدولة بواسطة عسكريين أو رجال دين"( للمزيد راجع: تورس, 2012).

7. في خطاب للملك عبد الله, ملك الأردن, عام 2016, يقول فيه عن الدولة المدنية "... يجب عدم تأسيس هذه الدولة بمزج الدين بالسياسة، وعدم وقوفها ضد الدين أو رفضه، وبالبرغم من أنّ الدين يبقى عاملاً مهماً فيها إلا أنّها ترفض استخدامه لتحقيق الأهداف السياسية" (للمزيد راجع: جوردن تايمز, 2018).

8. أما الأستاذ محـمد المرباطي, نائب القنصل العام لمملكة البحرين بجدة, في مقال له عام 2012 بعنوان " هل نعي ما نقول دولة مدنية.. مرجعيتها..؟" يُعرف الدولة المدنية على أنها "مصطلح غربي, يحكمها مدنيين لا مكان فيها لرجال الدين أو العسكريين، وتقوم على منظومة القوانين والنظم العلمانية" (للمزيد راجع: المرباطي, 2012).

9. أما الدكتور إبراهيم الحيدري, عالم اجتماع عراقي, في مقال لها عام 2016 بعنوان "الدولة المدنية والدولة الدينية,"  يُعرف الدولة المدنية على أنها "دولة القانون والمجتمع المدني، وهي الدولة الحديثة التي تقوم على أساس مفهوم المواطنة. ففي ظل دولة القانون والمجتمع المدني لا يكون هناك تمييز أو إقصاء لأي فرد. لأنها تقوم على مفهوم المواطنة واحترام حقوق الإنسان وعلى التعدد والتنوع والاختلاف، فلا تفرق بين المواطنين ولا تسمح لأي سلطة بالتدخل في شؤونهم."( للمزيد راجع: الحيدري, 2016).

10. أما الأستاذ فرج فوده, كاتب ومفكر مصري, في مقال لبوابة الفجر عام 2016 بعنوان "فرج فودة.. شهيد الكلمة, يُعرف الدولة المدنية الحديثة على "أن أسسها هي العلمانية, والمواطنة, والالتزام بميثاق حقوق الإنسان, وتحقيق العدل, وأن تكون المصلحة العامة والخاصة هي أساس التشريع,"( للمزيد راجع: بوابة الفجر, 2016).

11. أما الدكتور أنور مغيث، رئيس المركز القومي للترجمة، وعضو الحزب المصري الديمقراطي؛ في مقال له عام 2016 بعنوان " لا يمكن انتزاع حريات الأفراد وإدعاء الدولة تطبيق الديمقراطية,"  يُعرف الدولة المدنية على "إن شرط الدولة المدنية هو الوصول بالممارسة السياسية والفكرية إلى ما وصلت إليه العلمانية، وهى فصل الدين عن الدولة،"( للمزيد راجع: مغيث, 2016). 

12. أما الأستاذ سعيد بن سعيد العلوي, كاتب وأكاديمي مغربي وأستاذ الفلسفة بجامعة محمد الخامس, في مقال له عام 2011 بعنوان "الإسلام السياسي والدولة المدنية," يقول "... الإسلام لا يتعارض مع الدولة المدنية، من حيث هي دولة المؤسسات واستقلال السلطات عن بعضها البعض، ودولة القانون والمساواة بين المواطنين أمامه، والإسلام يقبل دولة المواطنة والمواطنين الأحرار الذين هم أمام القانون سواسية,"(للمزيد راجع: العلوي, 2011).

13. أما الدكتور ياسين سعيد نعمان الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني والقيادي البارز, في مقابلة صحفية مع قناة الميادين له عام 2012, قال عن الدولة المدنية "أنها ببساطة دولة المواطنة المتساوية وليس دولة القبيلة أو العسكر أو الايدولوجيا," (للمزيد راجع: العديني, 2012).

14. أما الدكتور جاسر عودة, باحث مصري ومفكر أسلامي, في مقال له, عام 2017 , بعنوان "مقاصد الشريعة والدولة المدنية: تصور توافقي," يصف الدولة المدنية كالآتي: ".. ينبغي أن نفرق في تعريف الدولة المدنية بين المبادئ القيمية التي يتفق عليها الجميع، وبين الأيديولوجيات السياسية المختلفة التي ينبغي أن تكون كلها فاعلة ومسهمة في تيارات الدولة المدنية المنشودة دون أن يحتكر أي منها تعريف الدولة نفسها... أما المبادئ المتفق عليها فأولها أن يحكم المدنيون تلك الدولة لا أن يرتبط نظام الحكم بالمؤسسة العسكرية،... وثاني هذه المبادئ ضمان حريات وحقوق المواطنين وتساويهم أمام القانون مهما كان دينهم وجنسهم وفكرهم، وهذا يتطلب دعم مبدأ سيادة القانون واستهدافه لتحقيق العدالة واستقلاله الحقيقي عن السلطات الأخرى في الدولة، واحترام الدستور للقيم التي قام عليها المجتمع وبالتحديد لـ مبادئ الشريعة الإسلامية إذا كانت الغالبية من المسلمين، وهذا بالطبع مع كفالة حرية المعتقد لكل أصحاب الأديان من المواطنين.." (للمزيد راجع: عودة, 2017).

15. أما محـمد عبد الرحمن, أحد قيادات الحزب الشيوعي في السودان, في مقال له يوم 22 ابريل  2018 بعنوان "من هم المدنيون حقا؟," يقول أن "هناك ما يشبه الإجماع على أن في الدولة المدنية عدة مبادئ ينبغي توافرها، فإذا نقص احدها لا تتحقق شروط هذه الدولة.  ومن هذه المبادئ: (1) أنها دولة تقوم على نظام مدني من التسامح والسلام وقبول الآخر والمساواة في الحقوق  والواجبات.., (2) وهي في الوقت نفسه تقوم على مبدأ المواطنة في بنائها ، وتضمن حقوق الجميع.., (3) تقر الدولة المدنية وتؤمّن التعدد الفكري والسياسي والعقائدي، وتضمن خيارات الناس وحرياتهم, (4) دولة مؤسسات وقانون، يخضع الكل فيها لدستور واحد, (5) الفصل بين صلاحيات السلطات الثلاث وعدم تداخلها، وفصل المؤسسات الدينية والعشائرية عن المؤسسات السياسية، وتخضع المؤسسة العسكرية فيها للسلطة المدنية المنتخبة، ولا قوة خارج منظومة الدولة، التي هي من يحتكر السلاح, (6) تقوم على منظومة ديمقراطية متكاملة، ... ، تؤمن التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات تتسم بقدر كبير من الشفافية والمصداقية، (7) ولا معنى للدولة المدنية من دون قدر معقول من العدالة الاجتماعية، بما يضمن الحياة الحرة الكريمة لجميع المواطنين,". (للمزيد راجع: عبد الرحمن, 2018).

بعد هذا العرض المختصر لمجرد عينة من التعريفات لمصطلح الدولة المدنية, والتي تمثل مجموعة من النُخب المختلفة في الوطن العربي! يتضح أنه لا يوجد إجماع على معني هذا المصطلح! وأن أكثر المعايير تداولاً في هذه التعريفات لتحديد معني الدولة المدنية هي: العلمانية, والمواطنة, والديمقراطية. ويبقي السؤال: ما هو الصواب, والذي يمكن اعتباره التعريف المناسب والحقيقي لمصطلح الدولة المدنية؟ وعلى أي أساس يمكن اختيار هذا التعريف؟ بمعني آخر, ما هي الدولة المدنية التي تتحدث عنها هذه النخب؟ وما هو التعريف الجامع الذي يمكن أن يتفق عليها الجميع؟

الدولة المدنية.. و.. أضدادها؟
طالما أن الأشياء -  في أغلب الأحيان - تُعرف بأضدادها, بمعني طالما إن الكثير من المفاهيم يتم تعريفها بالنظر والتحليل لنقائضها, وبمعني آخر طالما أنه لا يمكن تحديد ومعرفة مصطلح معين بدون معرفة نقيضه, فعليه يمكن القول إن تحديد مصطلح الدولة المدنية يمكن فهمه أكثر بمعرفة الصفات الأخرى للدولة مثل: "العلمانية" و"الليبرالية" و"الدينية" و"الإسلامية" و"العسكرية" و"الحديثة" و"الديمقراطية" وغيرها. وفيما يلي تعريفات مُختصرة لهذا الصفات والمُصطلحات لعلها تقربنا وتسهل لنا معنى الدولة المدنية:

أولا: الدولة المدنية والدولة العلمانية
هناك شبه إجماع بين أغلب النخب السياسية والفكرية على أن فكرة الدولة العلمانية (The Secular State) هي النموذج المقابل للدولة الدينية بالمفهوم الكنسي الذي ساد في العصور الوسطى والتي تعني تحديداً فصل الدين عن الدولة. والسؤال هنا: ما الفرق بين هذه الدولة العلمانية والدولة المدنية؟ ولماذا تخلي العلمانيون, بجميع توجهاتهم الفكرية والايديولوجية, أخيراً عن هذا المصطلح, ولماذا تم تبني مصطلح الدولة المدنية بدلا من ذلك؟
وفي هذا الصدد يقول الدكتور أنور مغيث, رئيس المركز القومي للترجمة، وعضو الحزب المصري الديمقراطي ".. في الحقيقة لا يوجد أي فرق بين الدولة العلمانية والدولة المدنية." أما لماذا يميل العلمانيون هذه الأيام إلى استخدام مصطلح الدولة المدنية بدلاُ من مصطلح الدولة العلمانية؟.. فيُجيب على هذا السؤال بالقول: ".. ، بدأ العديد من العلمانيين باستخدام مصطلح الدولة المدنية بدلاً من الدولة العلمانية للحصول على المزيد من الدعم في مجتمع ذي أغلبية دينية (إسلامية), .. ويوضح كيف استخدم الساسة في مصر هذا المصطلح لسببين: الأول ، بسبب حملة التشويه ضد مفهوم العلمانية من قبل الإسلاميين. والثاني، لأن مصطلح الدولة المدنية، في السياق المصري، واسع جدا بحيث يمكن التلاعب به," (للمزيد راجع: مغيث, 2011).

أما الأستاذة هبة عصام القرار، العضو المؤسس للحزب الاشتراكي الديمقراطي المصري، توضح فهمها لـ "الدولة المدنية" والأسباب الكامنة وراء تجنب استخدام مصطلح "علماني" على النحو التالي: "الدولة المدنية هي نفسها الدولة العلمانية ولكن ينبغي للمرء أن يأخذ بعين الاعتبار طبيعة المجتمع (الطبيعة الدينية للمجتمع) وكيف يفهم المجتمع هذا المصطلح... باستبدال الحزب مصطلح "الدولة العلمانية" بـ "الدولة المدنية، يمكن للمرء أن يقلل من التنديد الذي قد يأتي من المجتمع أو المعارضين. علاوة على ذلك، يمكن للمرء أن يعالج ويقوم بتبسيط المصطلح إلى الناس دون مواجهة مشكلة رفضه لمجرد كون المرء علمانياً."(للمزيد راجع: كاتبة, 2014).
من هذا, ووفقا لهذا الفهم, يمكن استخلاص إن شعار الدولة المدنية, عند العلمانيون هو مصطلح مُرادف للدولة العلمانية، أي الدولة المنفصلة عن الدين، والتي لا يشكّل الدين أساسًا في تكوينها, وبذلك يجب إقصاء الدين عن السياسة والتشريع وكل مناحي الحياة العامة. 

والخلاصة, وهنا يمكن التذكير بالتاريخ, إن كل الدول العربية مند استقلالها في نهاية أربعينيات القرن الماضي وحتى الآن, كانت (ومازالت) تحت حكم التيارات العلمانية سواء كانت هذه التيارات، اشتراكية أو قومية أو بعثية أو شيوعية أو ليبرالية أو قبلية أو عائلية.

ثانيا: الدولة المدنية والدولة الليبرالية
مفهوم الدولة الليبرالية يقوم بالأساس على فكرة الحرية الفردية، وعدم تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية, وترك السوق يُدير نفسه بنفسه, بمعني أن النظام الاقتصادي الأمثل هو نظام السوق الحرة ومنع الدولة عن التدخل في الحياة الاقتصادية. وبمعني آخر يمكن القول أن الليبراليون ينادون بأفكار تدعو إلى حرية التعبير، وحرية الدين، وحرية الاقتصاد, والحفاظ على الحقوق المدنية، والمساواة بين الجميع في الدولة. ومن هذا يمكن استخلاص أن الليبرالية لا تهتم كثيرا بشكل الدولة, ولا بأي نوع من أنواع نظام الحكم!

وإذا كان هذا هو تعريف الليبرالية, فما هي علاقتها بشعار الدولة المدنية؟! أم أنهما وجهان لعملة واحدة؟ وإذا كان كذلك, فما الذي دفع بالليبراليون للتخلي عن المطالبة بالدولة الليبرالية واستبداله بشعار الدولة المدنية؟! .. للأسف "المدنيون الجدد" لم يحددوا هذه العلاقة بعد!

ثالثا: الدولة المدنية والدولة العسكرية
يُعرف البعض الدولة العسكرية (The Military State) على أنها تعني سيطرة المؤسسة العسكرية (الجيش) على مقاليد الحكم في الدولة، بحيث تكون الكلمة الأولى والأخيرة للرجل العسكري أو لمجموعة الرجال العسكريين الذين يقودون هذه المؤسسة العسكرية. ففي هذه الدولة لا مكان تداول السلطة,ولا اختيار الشعب لقيادته السياسية من خلال انتخابات حرة ونزيهة, ولا يحق للشعب أن يقرر مصيره بإرادته، والسلطة الوحيدة بيد قادة العسكر الذين يملكون وحدهم القوة.

من هذا الفهم لمعني الدولة العسكرية ينتشر هذه الأيام بين جُل النخب السياسية شعار: "لا ... للعسكرة," بمعني هناك شبة أجماع بين النُخب خصوصا العربية على التخلص من عسكرة الحياة المدنية تحت أي شعار ومهما كان السبب. ولعل السبب الأساسي وراء هذا الرفض هو أن العسكر قد قاموا ما بين 1948 إلى 1990 بأكثر من 22 انقلاب في أكثر من 10 دول عربية, وللأسف لم يستطيعوا خلال هذه الفترة النجاح في أي دولة من هذه الدول! وبعد هذا الفشل الذريع هاهم اليوم يحاولون في بعض الدول التسلل والسيطرة على مفاصل الدولة ومؤسسات المجتمع المدني في الزي المدني وبقوة السلاح.

وإذا كان هذا هو تعريف الدولة العسكرية, فما هي علاقتها بشعار الدولة المدنية؟!.. والحقيقة هنا إن جُل "المدنيين الجدد" قد حددوا هذه العلاقة وذلك برفضهم لكل أنواع العسكرة للحياة المدنية والمطالبة برجوع العسكريون لثكناتهم المُخصصة لهم في الدولة وعدم تدخلهم في السياسة. بمعني آخر أن الدولة العسكرية لا يمكن أن تكون دولة مدنية بأي حال من الأحوال.

رابعا: الدولة المدنية والدولة الدينية
الدولة الدينية أو الثيوقراطية (The Religious or Theocracy State)  كما يُسميها البعض - هي  التي يكون فيها الحاكم هو ظل الله على الأرض, وأن السلطة والحاكمية بيد لله وحده. وبمعني هي الدولة التي يكون فيها الحاكم الأعلى هو الإله وسلطات رجال الدين هم من يمثله على الأرض وما على الشعب إلا أتباع الأوامر الإلهية. ولعل خير مثال على ذلك هو حكم الكنيسة الذي كان سائداً في أوروبا في القرون الوسطى، حيث سيطرت الكنيسة على كل جوانب الحياة في الدولة وهيمنت على كلّ شؤون المجتمع، وفرضت الوصاية على عقول الناس وتصرفاتهم وحرياتهم. بمعني آخر إن الحكام في الدولة الدينية يحكمون وفقاً – لما عُرف في السياسة - بنظرية "الحق الإلهي،" والتي يترتب عليها أن يكون الحاكم في منزلة عالية لا يرقى إليها أحد من أفراد الشعب في الدولة، وأنه لا يجب على أبناء الشعب الاعتراض على قرارات الحاكم وأقواله أو أفعاله. 

وإذا اتفقنا على أن هذا هو تعريف الدولة الدينية الصحيح, فيمك القول أن الدولة الدينية لا علاقة لها بمصطلح الدولة المدنية .. والحقيقة هنا أن "المدنيين الجدد" بمختلف توجهاتهم يرفضون مفهوم الدولة الدينية, بمعني آخر أن الدولة الدينية لا يمكن أن تكون دولة مدنية بأي حال من الأحوال.

خامسا: الدولة المدنية والدولة الإسلامية
الغريب أنه عند الحديث عن مفهوم الدولة الإسلامية (The Islamic State) يتبادر عند البعض, عن قصد أو غير قصد, أنها تعني الدولة الدينية! ولكن الحقيقة أن الدولة الإسلامية ليست دولة دينية. فالدولة الإسلامية لا تقوم على فكرة حكم رجال الكهنوت ولا حكم رجال الدين. فرجال الدين يعتبروا بالدرجة الأولي مواطنون كغيرهم من المواطنين الآخرين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات, وما يُميزهم عن غيرهم هو تخصصهم في مجالات الشريعة المختلفة, واجتهاداتهم غير المُلزمة في آليات اتخاذ القرارات في الدولة.

والحقيقة أن مصطلح الدولة المدنية قد تم تداوله في الفكر الإسلامي لأول مرة من قبل الإمام المُصلح محـمد عبده (1849 - 1905) الذي أصر على أنه لا توجد سلطة دينية في الإسلام، مشددًا على مدنية الدولة الإسلامية مقابل كونها دولة ثيوقراطية" (للمزيد راجع: كمال محـمد, 2011).

وطالما أن الدولة المدنية لا تشترط "مرجعية," وليس لها مرجعية واحدة محددة ومُتفق عليها من الجميع, عليه يمكن القول أن الدولة المدنية لا تتعارض مع فكرة الدولة الإسلامية التي يكون مصدر قوانينها والنظام القائم فيها مستمداً من فهم الشريعة الإسلامية, وطالما كانت تشريعات هذه الدولة تصدر وفق القنوات الديمقراطية التي يعتمدها الشعب وفق أرادته الحرة, ولا يتعارض مع كل ما هو معلوم من الدين بالضرورة. والمقصود بحكم معلوم من الدين بالضرورة: ما كان ظاهراً متواتراً من أحكام الدين معلوماً عند الخاص والعام، مما أجمع عليه علماء الأمة إجماعاً قطعياً.

سادسا: الدولة المدنية والدولة الحديثة
الدولة الحديثة (The Modern State) هي دولة غير تقليدية. والدولة التقليدي تعني المتمسكة بالقيم القديمة, والمحكومة بالأعراف والتقاليد السائدة في المجتمع. بمعني هي الدولة التي تقوم محاكاة نصوص وأعراف قديمة والاحتذاء بها وممارستها بدون أي تفكير أو ابتكار. أما الدولة الحديثة فهي التي تقوم على مجموعة من السمات والقيم والتي لعل أهمها: (1) أنها دولة تقوم على قواعد دستورية (مكتوبة أو غير مكتوبة), وليس مجرد الأعراف والتقاليد كما هو الحال في الدولة التقليدية. (2) أنها دولة لا تقوم على "نظرية الحق الإلهي," وإنما تقوم على "حق الشعب في اختيار من يحكمه." (3) أنها دولة مواطنين, وليست دولة رعاية كما هو الحال في الدولة التقليدية, بمعني في الدولة الحديثة يتحول الفرد إلى مواطن ويبقي ولاءه للدولة وليس للعائلة أو القبيلة أو الجهة أو العشيرة. (4) دولة مُتمدنة, بمعني جلّ سكانها يسكنون المدن. (5) تقوم على الانتشار الواسع لوسائل الاتصال الاجتماعى الحديثة في كل أرجاء الدولة. (6) تقوم على المؤسسات المعاصرة مثل المؤسسات السياسية كالبرلمان والحكومة والأحزاب., وليس مؤسسات التقليدية كالقبيلة والعشيرة والجهة. (7) أنها دولة صناعية وتعطي الأولوية للصناعة على الفلاحة في سُلم الأولويات. (8) أن مفهوم الدولة الحديثة يجب أن يرتبط دائما بمفهوم العقلانية والمعرفة والعلم.

سابعا: الدولة المدنية و الدولة الديمقراطية
الدولة الديمقراطية (The Democratic State) تعني ممارسة الشعب لحقه في الحكم والسيادة عبر انتخاب من يمثله في مؤسسات الدولة بكل حرية ونزاهة. ويعرف البعض الدولة الديمقراطية  على أنها: "... مؤسسات الدولة يديرها مدنيون منتخبون يخضعون للمساءلة والمحاسبة، ولا تدار الدولة بواسطة عسكريين أو رجال دين. واستبعاد رجال الدين لا يعني استبعاد المتدينين، ولكن المقصود ألا تجتمع السلطتان السياسية والدينية في قبضة رجل واحد حتى لا يتحول إلى شخص فوق القانون وفوق المحاسبة"( للمزيد راجع: نورس, 2012). 

كما ذهب الباحث العراقي الماركسي صباح جاسم جبر إلى التأكيد على أن عملية توصيف أية دولة بأنها دولة مدنية ديمقراطية لابد من توفر شروط ومعايير معينة منها: ".. مبدأ السيادة الشعبية، ومبدأ الحريات المدنية، وحق الجماهير في الاختيار والتعبير والتظاهر، والأخذ برأي الأغلبية مع احترام رأي الأقلية، ووجود معارضة تتمتع بالحرية السياسية ووجود وسائل الضغط الجماهيري والرقابة على من بأيديهم صناعة القرار...  وينبغي أن تقوم على مبدأ فصل السلطات والانتقال بالفرد ــ المجتمع في مفهوم الرعية إلى مفهوم المواطنة كون أن الديمقراطية الحديثة مبنية على منطق الإنسان الذي يحاور ويصوت ويناقش،"( للمزيد راجع: المضحكي, 2013). بمعني يمكن القول أن الدولة المدنية تؤمن بالديمقراطية طريقا للحكم وتثق بمواطنيها وقدرتهم في ممارستها. 

الخاتمة
بعد هذا العرض المُختصر يبقى السؤال الذي سألناه في بداية هذا المقال وهو:"ما هو المقصود بمصطلح "الدولة المدنية؟" قائماً دون إجابة واضحة ومحددة! وتتوقف أجابته على خلفية النخب, الايديولوجية والفكرية, التي تتبناه وتُطالب به!!

عليه, وباختصار شديد, يمكن القول أنه لقد ظهر هذا المصطلح من دون أن يكون له مضمون حقيقي ومتعارف عليه, ومن دون كينونة واضحة المعالم, وبالتالي فهو. مصطلح مُركب وغامض مما دفع بكل شخص يبحث عن دور أو مكان في المعترك السياسي هذه الأيام أن يصف نفسه بمثل هذا التوصيف. وفي  هذا الصدد لعلى أجد نفسي مُتفق مع الأستاذ سليم البطاينه في القول بان " مفهوم الدولة المدنية يتفوق على غيره من المفاهيم بالإشكاليات العديدة التي يطرحها فهو مفهوم يتلبسه غموض كثيف يجعل من محاولات الإمساك به أمراً صعباً مهما كانت إدارة التحليل المستخدمة,"( للمزيد راجع: البطاينه, 2018). 

والغريب أن بعض النخب تنادي بـ "المدنية" وتعتقد أنها الوحيدة التي تمثلها. والأكثر من ذلك تطلب من الآخرين أن يثبتوا لها أنهم فعلاً مدنيون وديمقراطيون!!! وعندما يقبل الآخر بنفس الأسس والمبادئ التي تنادي بها هذه النخب ويدعوها للمشاركة في منافسة ديمقراطية حضارية واحترموا إرادة الشعب ترفض هذه النخب ذلك!

ومما تقدم يمكن القول أن مصطلح "الدولة المدنية," بالرغم من أنه مُنتشر وتنادي به كل النخب الناشطة في الساحات السياسية, إلا أنه لا يزال مُجرد "شعار" أكثر منه "مشروع" سياسي مُحدد المعالم والقيم, وليس لهذا الشعار مرجعية واحدة ومتفق عليها من الجميع. وعليه لابد من تحديد ما يعنيه هذا مصطلح الذي أردنا له النجاح والقبول من كل الأطراف. ولعله من المناسب أن أختم هذا المقال بالتأكد على أن هناك مجموعة من المبادئ والمنطلقات التي يجب الالتزام بها والعمل على تطبيقها إذا أردنا فعلا تحويل هذا الشعار إلى واقع ملموس, ولعل من أهم هذه القيم الآتي: "(1) تحقيق وممارسة مبدأ حق الاختيار للجميع, (2) إقامة الدولة الدستورية, على أساس إرادة الشعب وعلوية القانون الذي يستمد قوته من علوية الدستور.(3) الإيمان بعدم وجود تعارض بين الإسلام والدولة, بمعني إن الدولة المدنية التي نسعى لها يجب لا تعادي الإسلام  بل تعترف به وتُؤطره وتحميه في إطار القوانين الجاري العمل بها, وبمعني أخر يجب رفع شعار "سمو الشريعة وحكم وسيادة القانون." (4) خلق وتشجيع المنافسة الحرة, وممارسة التعددية السياسية, (5) بناء مؤسسات عصرية وقوية والمحافظة عليها, (6) تجريد السياسة من العسكر وإنهاء تدخل العسكر فى السياسة. بمعني أن الدولة المدنية لا يمكن أن تكون دولة عسكرية أو بوليسية، لان الدولة البوليسية لا تعرف بالحق في المساواة ومن ثم لا تعترف بدولة للمواطنة, و(7) السعي إلى إنهاء أو على الأقل الحدّ من تأثير التدخل الخارجي," (للمزيد راجع:  بالروين, 2009).

وفي الختام علينا أن نُدرك بأننا جميعا مع مصطلح الدولة المدنية إذا كانت تعني أنها دولة ضد العسكر .. وضد الاستبداد .. وضد التمييز بكل أشكاله... ومن جهة آخري أنها دولة الحق .. العدالة .. والنهضة والحضارة والتطور.. والمؤسسات الحضارية والمتطورة ... أدعو الله أن يتحول مصطلح - "المدنية" من هذا الوعاء الفارّغ مِن مضمونه، والشعار الأجوف .. إلى مشروع عملي حقيقي يقبله الجميع. 

وأخير ... لا تنسوا يا أحباب أن هذا مجرد رأي للتذكير أعتقد إنه صواب, فمن أتي برأي أحسن منه أخذناه , ومن أتي برأي مُختلف عنه احترمناه .. أدعو الله أن أكون بذلك قد ساهمت في خدمة شعبي وإصلاح وطني ..

والله المســـتعـان.
               

محـمد عبد الرحمن بالروين
  20 يناير 2019
berween@hotmail.com

المراجع:
محمـد بالروين, "من مفهوم الدولة." نشر هذا المقال في العديد من المواقع الليبية علي النت في 25 نوفمبر 2008, منها موقع ليبيا وطننا, أنظر الرابط:
http://www.libya-watanona.com/adab/mberween/mb25118a.htm

غازي التوبة, أكاديمي وكاتب فلسطيني, "ما هي الدولة المدنية؟" موقع الجزيرة,                    https://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2012/8/12/ 

جوردن تايمز. من خطاب الملك عبد الله في.  jordantimes.com,8/11/2016
تورس , 20 – 03 – 2012 , "مفهوم الدولة المدنية و العلمانية؟ والفرق بينها؟"  نشرة في الفجر نيوز
https://www.turess.com/alfajrnews/103614

ياسمين ابوالحجاج عبدالراضى, 14-7-2014, تحليل مفهوم الدولة المدنية, المركز الديمقراطي العربي    https://democraticac.de/?p=47666 

محمد المرباطي, هل نعي ما نقول دولة مدنية. مرجعيتها..؟ (4-4)," الايام, العدد 8468 , 16-6- 2012     http://www.alayam.com/Article/courts-article/80602-4-4.html

د.أنور مغيث, الدولة المدنية والدولة العلمانية.. هل هناك فرق؟ 22 أبريل 2011.

https://www.youm7.com/story/2011/4/2282/396736

محمـد المعالج, "عن الدولة المدنية," 02 اكتوبر 2018,                                             https://www.sasapost.com/opinion/the-civil-state/

سليم البطاينه, نائب اردني, "الإشكالية في مفهوم الدولة المدنية," 21 أكتوبر 2018.       https://www.raialyoum.com/index.php

خلفان البدواوي, "العالم العربي وتحديات الدولة المدنية," صحيفة العرب, السبت 2014/03/22  https://alarab.co.uk/

 أحمد برقاوي, "في الدولة المدنية," 04 مارس 2017. https://www.albayan.ae/opinions/articles/2017-03-04-1.2875549

عريب الرنتاوي, "علمانية الدولة شرط مدنيتها," 02 اكتوبر 2017.  https://www.alhurra.com/a/democracy-election-secularism-autocrat-civil-society/395191.html

الدكتور إبراهيم الحيدري, "الدولة المدنية والدولة الدينية," في موقع الحوار المتمدن, 21 سبتمبر 2015,    http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=485561&r=0

أنور مغيث "لا يمكن انتزاع حريات الافراد وإدعاء الدولة تطبق الديمقراطية," 28 -02- 2016, موقع اليوم السابع   https://www.youm7.com/story/2016/2/28/2606664

سعيد بن سعيد العلوي, الإسلام السياسي والدولة المدنية, 01 -09- 2011, الشرق الاوسط, العدد 11965, http://archive.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=638276&issueno=11965#.XDU-FWlS_IU

محمد صادق العديني, مقابلة صحفية مع الدكتور ياسين سعيد نعمان الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني, علي قناة المياديين, 21 يوليو، 2012,                                                                http://yemenat.net/2012/07/92903/

 الدكتور جاسر عودة, "مقاصد الشريعة والدولة المدنية: تصور توافقي." مارس 1, 2017.   http://www.jasserauda.net/portal/2

محـمد عبد الرحمن, "من هم المدنيون حقا؟," 22 ابريل 2018, موقع الحزب الشيوعي, جريدة طريق الشعب ص 2  https://sudancp.com/index.php

محمد كمال محمد, باحث بمركز الحضارة للعلوم السياسية, "الدولة المدنية: من رؤى متنوعة إلى إطار مشترك (على ضوء الثورة المصرية), في موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث, 07 ابريل 2011.   http://www.hadaracenter.com/index.php?option=com_content&view=article&id=116

محـمد بالروين, "أسلمة الديمقراطية: المتطلبات السياسية للديمقراطية في العالم الإسلامي" موقع ليبيا وطننا,  04 يوليو 2009.. http://www.libya-watanona.com/adab/mberween/mb04079a.htm

فهد المضحكي " مفهوم الدولة والدولة الحديثة," الايام - العدد 8811 السبت 25 مايو 2013 .   https://www.alayam.com/Article/courts-article/84562/

 

al-Jibāʿī, ʻAbd al-Karīm 2011: Al-dawla al-madanīya talfīq fikrī wa talbīs sīāsī (The ‘Civil State’ as an Intellectual Fabrication and a Political Deception), in: Kurdish Contemporary Studies Center, (06.12.2013) http://tkcsc.com/ara/modules/publisher/item.php?com_mode=nest&com_order=0&itemid=22
 

  عامر كاتبهAmer Katbeh, The Civil State (dawla madanīya): A New Political Term?, IFAIR,  24. February 2014             http://ifair.eu/the-civil-state-dawla-madaniya-a-new-political-term/


al-Saīd Yāsīn 2010: Misr dawla madanīya ḥadītha (Egypt Is a Civil Modern State). An Interview with al-Saīd Yāsīn,  http://www.masress.com/elakhbar/2862

أخر مقالات نشرتها