Wednesday, November 16, 2011

من مفهوم المنهجية العلمية 2/4


بقلم: د. محمد بالروين

حاولت فى الجزء الاول من هذا المقال تسليط بعض الضوء على معني وأسس المنهجية وفى هذا الجزء سأحاول مناقشة أهم عناصر وأدوات المنهجية.
ثالتا: عناصر المنهجية:
لعل من أهم العناصر الاساسية للمنهجية العلمية الآتي
1ـ التصور:
يُعرف الدكتور محمد فتحي الشنيطي فى كتابه "أسس المنطق والمنهج العلمي" التصور" علي أنه "الفكرة التي تعبر تعبيرا عاما شاملا في كلمة مفردة أو عبارة عن كيان عقلي يقابله مجموعة من الاحساسات والادراكات والخبرات المكتسبة من التجربة والحياة"(1970 , ص 45). وعليه يمكن القول بان تصور أوتخيل شىء أوفكرة هو أمر ضروري وعنصر أساسي من عناصر المنهجية العلمية من أجل الوصول لنتائج واهداف منشودة. أوكما قال عالم الفيزياء ألبرت أينشتاين (1879 – 1955) في هذا الصدد بأن "الخيال أهم من المعرفة وفي رواية آخري أهم من الذكاء" (راجع: صفحة الإقتباسات , 2010)
2ـ السببية:
بمعني لابد من الاخد بكل الاسباب الممكنه والمتوفرة لذي الباحت لفهم ومعرفة الظاهرة اوالسؤال الذى يريد دراسته أومحاولة الاجابة عليه. وهنا لابد علي الباحت من التفريق بين نوعين من الأسباب: (أ) السبب الذي يسبق الظاهرة أوالحدت. وهذا النوع من الاسباب ينطلق من الفرضية التى تقول بان لكل أثر أوشيء سبب ولمعرفة حقيقة هذا الشيء أوالأثر لابد علي الباحت من معرفة سببه أوإفتراضه لكي يسهل التعامل معه ومعرفة نتائجه أوكما يُقال في الاثر "أذا عُرف السبب بطل العجب." وفي هذا الصدد يحاول الباحت الاجابة على سؤال "لماذا؟" و(ب) السبب الذي ينتج الشيء أوالحدت ويؤدى اليه. وهنا يحاول الباحت الاجابة على سؤال "كيف؟" وبإختصار شديد إن الحديت علي السببية كعنصر من عناصر المنهجية العلمية يعني ضرورة معرفة الدافع أوالدوافع الأساسية التي قادت الي وجود الظاهرة أوالمشكلة التى يريد الباحت دراستها وكيف تكونت وتطورت هذه الظاهرة.
3ـ الغرضية:
لعله من المفيد هنا التدكير بالحقيقة التى لا يختف عليها كل الباحتين العلميين مهما كانت تخصصاتهم ومعتقداتهم وهي إن العلم بطبيعته علم "غرضي." بمعني هوعلم ليس لمجرد تجميع المعلومات والادلة في حد داتها وإنما لأجل البحت والكشف والوصول للحقائق والقوانين العامة. وبمعني ان البحت العلمي يقوم على أساس تحقيق غرض أوهدف سامي ومُفيد وليس مجرد بحت من أجل البحت. وبمعني آخر هو بحت من أجل محاولة الوصول للقوانين العامة والمعرفة الصحيحة والمفيدة. وذلك لان الباحت والعالم الحقيقي ليس مجرد إنسان عبتي وإنما هو إنسان رسائلي متعطش للوصول للحق مهما كان وأينما وجد.
رابعا: أدوات المنهجية
يتفق أغلب علماء البحت العلمي اليوم بانه يمكن حصر العمليتين الاساسيتين لكل علم فــــ "عملية التحليل" و"عملية التركيب أوالتأليف." بمعني إن المعرفة فى الاصل هى عبارة عن:
(أ) أما عملية قيام الباحت بتحليل ظاهرة أومشكلة معينة لمحاولة فهم أسرارها ومكوناتها ولمعرفة كيفية التعامل معها. وفي هذه الحالة يقوم الباحت بهذه العملية من أجل التحديد والتمييز والتفريق بين مكونات شىء ما أوظاهرة معينة. أو
(ب) قيام الباحت بعملية تركيب أوتأليف مجموعة من الأجزاء والمكونات المتفرقة للوصول الي شيء أعم أوأكبر.
ولعل من أهم الادوات المستخدمة فى تحقيق أحد العمليتين فى أغلبية العلوم اليوم الآتي:
1ـ الاجماع:
هو اتفاق جميع الباحتين فى عصر من العصور على واقعة من الوقائع اومسألة من المسائل أومنهج من المناهج. فمتى ما انعقد هذا الاجماع كان دليلا قطعيا على حُكم المسألة المُجمع عليها وصارت حجة قطعية الدلالة والقبول. والحقيقة إن هذه الاداة هى نادرة الإستخدام وذلك لندرة إجماع الباحتين الا في قضايا أوقواعد عامة ومحدودة جدا.
2ـ القياس:
هو باصطلاح النحاة والاصوليين في المناهج الفقهية الاسلامية: "الاستدلال بالشاهد على الغائب." وهو ايضا محاولة مقارنة شيء ما بغيره لنعرف مقدار كل منهما بالنسبة للآخر. ويشترط فى المقارنة هنا بالدرجة الاولي وجود "العلة" أو"الدليل" أو"الشبة" بين الاشياء التى نريد مقارنتها. ومن هذا الفهم إصطلاح الأصوليين على ان القياس هو عملية "إلحاق ما لم يرد فيه نص على حكمه بما ورد فيه نص على حكمه فى الحكم, لاشتراكهما فى علة ذلك الحكم"(راجع: زيدان , 1985 , ص 194). وبمعني آخر يثم إستخدام اداة القياس في المنهج العلمي على أساس إسترداد ما هو تحت الدراسة والبحت الى الاشياء التى ثم معرفتها والاجماع علها في كل علم من العلوم. والغرض من القياس هو التحقيق من أن الحكم الذى يُراد الوصول له فى الواقعة اوالظاهرة التى تحت الدراسة ماذام فى ذلك جلب نفع للناس أودفع ضرر أورفع الحرج عنهم.
3ـ الإستقراء:
تقوم هذه الاداة على أساس محاولة البداية فى البحت من الجزئيات للوصول منها الى العموميات ومن تم الوصول للنتائج المطلوبة والقوانين العامة. ولعله من المناسب هنا الإشارة للعلاقة بين القياس والاستقراء: ففى القياس يستخلص الباحت النتائج من المقدمات أوالفرضيات أوينتقل من العام الى الخاص. أما فى الاستقراء فيسير الباحت فى الطريق العكسي. فمن بحته فى الظواهر يتجه الى النظريات والقوانين. ومن دراسته للجزئيات يصل الى الكليات.
4ـ المنطق:
يمكننا تعريف المنطق علي أنه الاداة العلمية التى تساعد الباحت على إستخدام المبادى العامة من أجل الوصول للتفكير الصحيح. بمعني المنطق هو الذى يُزود الباحت بالاسس والقواعد التى تعصمه من الخطأ وتقوده للصواب وهو الاداة التى تساعده على التمييز بين الفكر السليم والفكر الفاسد. وهو الطريقة العقلانية التي يستخدمها العلماء لحل المشاكل التي تواجههم أوللإجابة علي الإسئلة الصعبة التي تعرقل مسيرتهم العلمية. وهنا لابد من التأكيد بان التفكير المنطقي يقود في بعض الاحيان الي صراع الباحت مع الآخرين أوحتى مع إرادته وذلك لان الاسلوب المنطقي يجبر الباحت علي إنكار داته وعواطفه وحتى أحلامه وقُبول النتائج التى توصل اليها كما هى حتى ولو تناقضت مع معتقداته وفرضياته وذلك لان التفكير المنطقي بطبيعته تفكير نقدي. وعليه فلابد أن يستند البحت لكي يكون علميا الي أسس وقواعد منطقية متماسكة ومتكاملة ولابد أن يدرك الباحت بان علم المنطق هو في الحقيقة علم إستنتاجي يعتمد علي أدوات عديدة لعل من أهمها: الاستدلال والاستحسان والاستصلاح والاستصحاب.
(أ) الاستدلال: 
باختصار شديد هو محاولة إستخلاص أوإستنتاج شىء ما من شىء آخر. وهنا لابد من التأكيد علي إن من أهم شروط العلمية وأصول البحت ان يكون الاستدلال قائم على مصادر ومراجع متوفرة للجميع ومن حق الآخرين الاطلاع عليها من أجل القيام بمراجعتها ومحاولة تكرار تجاربها للتحقق من صحتها أوتفنيدها. بمعني لا يجب على الباحت المنهجي ان يستدل بمصادر غير موجودة ولا يمكن التأكد من صحتها أودقة نصوصها أوليس بإمكان الآخرين الاطلاع عليها. وليس من حقه الاستدلال بتجارب ليس من الممكن تكرارها. ولا يجب على الباحت ان يستدل بأشخاص مجهولين أومشكوك فى مصداقيتهم أولايمكن للباحتين الآخرين الوصول لهم للتحقق من صحة معلوماتهم.
(ب) الاستحسان:  
هو إعتبار شيء ما حسنا ومقبول أوالعدول عن قياس ظاهر الى قياس غير ظاهر. وقد يعني العدول عن قياس مُعين الى قياس أقوى وأحسن منه. فاذا ثم النظر فى قضية علي سبيل المثال فيها اكثر من وجه نظر يمكن للباحت ان يختار ما يمكن أن يعتبره حسنا أوالقبول بالدليل الذى يعتبره أقوى.
(ج) الاستصلاح:  
هو إختيار شيء ما أوتصرف معين لتحقيق مصلحة في واقعة ليس فيها حكم بنص قطعي ولا إجماع ولا قياس ولا يتعارض فيها دليلان ويمكن إختيارها لتحقيق مصلحة معينة أولدفع ضرر. والاستصلاح فى الاسلام هو طلب المصلحة التى توافق الشرع. وقد إستخدم بعض الفقهاء مصطلح "الاستدلال" فى مكان الاستصلاح. وهما يطلقان على عمل المجتهد وما أداء اليه اجتهاده فى الوصول الى المصالح المرسلة.
(د) الاستصحاب: 
عرف ابن قيم الجوزية الاستصحاب بأنه أستدامة إتبات ما كان تابتا. واستدامة نفي ما كان منفيا أى بقاء الحكم القائم أتباتا أونفيا حتى يقوم دليل على تغيير الحال. مثال ذلك القاعدة الفقهية التي تقول "الاصل فى الاشياء الاباحة" لقولة تعالى "هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا." وإنطلاقا من ذلك فإذا لم يقم ذليل من الكتاب والسنة على تحريم شىء من الاشياء أوتصرف من التصرفات فألاصل هو الاباحة حتى يقوم ذليل على عكس ذلك. وقد أجمع الائمة الاربعة ومن تبعهم على الاخد بالاستصحاب (راجع: علم الدين والعطار والمدنى , 1975 , ص 70). 
 
فى الجزء الثالث من هذا المقال باذن الله سوف أحاول تسليط بعض الضوء على أهم أساليب المنهجية العلمية.

يتبع ... 

والله المستعان.

د. محمد بالروين
-------------------------------------
المراجع:
ـ محمد أسماعيل علم الدين وعبد الناصر العطار ومحمد المدنى "المبادىء العامة للتشريع فى المملكة العربية السعودية , 1975.
ـ د. عبد الكريم زيدان (1985) "الوجيز فى اصول الفقه" العراق: بغداد, مؤسسة الرسالة: مكتبة القدس
ـ عبد الوهاب خلاف (1978) "علم أصول الدين" القاهرة: دار القلم, الطبعة الثانية عشر.
ـ د. محمد متحي الشنيطي (1970) "أسس المنطق والمنهج العلمي." لبنان, بيروت: دار النهضة العربية
ـ صفحة الإقتباسات (2010)

No comments:

Post a Comment

أخر مقالات نشرتها