Saturday, November 14, 2020

ظاهرة السكرة السياسة*

 

ظاهرة السكرة السياسة*

د. محمـد بالروين

كتُيرون مِمَّن يتعاطون السياسة في ليبيا اليوم يعيشون مراهقة سياسية, 
ونشوة السكرة السياسية هي أشد وأنكي وأخطر من كل السكرات.

نشوة السياسة تعني –  باختصار شديد – الابتهاج والانبهار الاولي بطعم رائحة لذة السياسة والانخراط فيها دون تردد، ولا أهداف واضحة، ولا قيود مُحددة، ولا شروط مُلزمة، ولا حتى معرفة كافية بالواقع المُعاش… وبمعني آخر تعني تدوق ما يمكن تسميته بــ “السكرة السياسية."

وظاهرة الســــكرة السياســة هنا تعني الغمرةُ واللذة الذاهبة بالعقل والادراك خلال فترة زمنية ما. وهي الحالة التي تغشى بصر مُتعاطي السياسة فتحبسه عن الوعي بما يُبصر، وتشل عقله عن التفكير، وتعجزه عن التركيز، وتُغيبه عن الواقع السياسي الذي يعيش فيه.

انطلاقا من هذا الفهم يمكن اعتبار “ظاهرة الســــكرة السياسـيـة” من أخطر الظواهر الاجتماعية الضارة والمنتشرة اليوم بين النخب السياسية والمسئولة علي اتخاد القرار السياسي في ليبيا. ولعله من المناسب التذكير هنا ان “ظاهرة السُّكر” عموما ليست بظاهرة خاصة ومُقتصرة علي شارب الخمرة فقط (كما يعتقد البعض)، وإنما يمكن اعتبار ظاهرة السكر بالخمرة هي أرخص أنواع السكر واشهرها اجتماعيا، وذلك لأنه شراب يؤثر في الإنسان لمدة قصيرة يعيش فيها شارب الخمر حالة من حالات الارتياح الزائف، والحُلم الكاذب، ويكون خلالها  فاقدا لعقله ووعيه ثم يعود بعدها إلى واقعه وتنتهي سكرته ويري انه ارتكب أمرا غير مقبول  اجتماعيا، ومُحرم دينيا، ولا يجب التباهي به بين نظرائه… بينما نجد ان نشوة السكرة السياسية هي أشد وانكي واخطر من كل السكرات الآخري، إذ تدفع بمُتعاطي السياسة بالتباهي والتظاهر بما ليس لديه وما لا يملك ولا يستطيع، وتؤثر فيه لمدة أطول قد يستمر تأثيره في بعض الاحيان مدي الحياة.

ومن جهة أخري لابد من التأكيد بان “ظاهرة السكرة السياسية” هي في الحقيقة ظاهرة كغيرها من الظواهر الاجتماعية الآخرين، فكما ان هناك “سكرة للحب” و "سكرة لكثرة المال” و "سكرة للمنصب الرفيع” و "سكرة لعلو المنزلة و ”سكرة للصيت العالي” و ”سكرة للفرح” و ”سكرة للخوف” و ”سكرة ُللنَّصْر و ”سكرة للفَزَع” و ”سكرة للطغيان” و ”سكرة للموت”، هناك ايضا “سكرة للسياسة والسلطة.” فالحب والطرب والفرح والنصر والمال والمنزلة والصيت والمنصب والتسلط والطغيان، كلها لها نشوة مُسكرة تذهب بالعقل، وتمنح اللذة له، وتغير من حالته، وتنقله الى عالم وردي وخيالي اخر، ويُصاب صاحبها بالكبر والغطرسة والاستغناء والاستعلاء، والازدراء لمن هو دونه غنى أو مكانة أو قوة أو معرفة، ويعتريه وهم من الغرور أن لا أحد يبلغ مبلغه في العلم أو الجاه او المال او الصيت أو القوة. فعلي سبيل المثال نجد ان سكرة الحب لها إحساس جميل ولذة بالغة تفوق الوصف والتعبير. ومتى ارتفع مؤشر الاحساس بالحب تولدت النشوة وأصابت صاحبها بالسكر؛ كما حدث للسيدة أم كلثوم رحمها الله عندما خرجت علي المسرح تتغني بقصيدة الشاعر المصري إبراهيم ناجي التي يقول فيها: “هل رأى الحب سكارى مثلنا”، ومن جهة آخري، يُذكر القران الكريم الانسان وخصوصا الذي يتشبث بالحياة واصابه الغرور والاستغناء عن الغير بقول الله تعالي (في سورة ق، الآية 19): {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}، بمعني ذلك ما كنت تقدر على الفرار منه ولا الحيد عنه.

وعليه يمكن القول بان نشوة السكرة السياسية (وخصوصا عند السياسي المبتدي) شبيه بنشوة القوة عند الشباب، ففي هذه السن يكون الشاب مُفتخرا بما هو عليه من قوة واندفاع مما يجعله يتباهى ويفتخر ويستعرض ما هو عليه من القوة والنشاط والحيوية، ويستمر في ذلك حتى يسكر بها وينغمس في التهور والعبث واللهو وعدم احترام الآخر. وهذا السلوك يدفع بالكثير من الشباب الي ضياع افكارهم، وتحطم احلامهم، وخسارة اموالهم، قبل ان تنتهي سكرتهم.

أسباب انتشار ظاهرة السكرة السياسية

هناك عوامل واسباب عديدة تؤدي الي انتشار ظاهرة السكرة السياسية السائدة هذه الايام –  بين العديدة ممن يتعاطون السياسة في وطني ليبيا، لعل من أهمها:

1.  الفراغ السياسي 

الحقيقة ان كل مُتتبع للمشهد السياسي الليبي اليوم لا يجد الا التخبط الاداري، والانفلات الامني. والفساد المالي، والانهيار العسكري. وقد أصبح هذا الفراغ يتجسد في أشكال مختلفة والوان عديدة منها – غياب الاستقرار، وانهيار الثوابت التي تقوم عليها الدولة، واهتزاز الثقة بين ابناء الشعب، وغياب البرامج والمشاريع الوطنية والمنتجة، وهبوط مستوي الثقافة عموما والثقافة السياسية خصوصا الى أذني المستويات.

2. غياب مؤسسات الدولة 

لعله يمكن القول – وباختصار شديد – ان جزء كبير من عدم تحقيق القيم والمبادئ والاحلام، التي قامت من أجلها ثورة الــ 17 من فبراير هو الغياب شبه الكامل للمؤسسات المدنية والحديثة والقوية، وخصوصا المؤسسات الوسيطة، كالمحافظات او الولايات، في الدولة التي يمكنها تحويل تلك القيم والمبادي والأحلام إلى مشاريع وبرامج عملية وملموسة. بمعني آخر غياب المؤسسات القادرة على الانتقال من الأحلام والشعارات الثورية إلى واقع الدولة الجديدة التي يحلم بها كل ابناء السعب.

3. المراهقة السياسية 

المراهقة السياسية تعني هنا – وباختصار شديد – الفترة الزمنية اللازمة لانتقال شخص يرغب مزاولة السياسة من مرحلة الطفولة السياسية الي مرحلة النضج والرشد السياسي. والحقيقة المُرة ان كل متابع لتطور الأحداث السياسية في المشهد الليبي هذه الايام، من خلال الإعلام المقروء والمسموع والمرئي ومواقع التواصل الاجتماعي، سيقتنع بان الكثيرين ممن يتعاطون السياسة في ليبيا اليوم يعيشون مراهقتهم السياسية، والأسوأ من ذلك ان اغلبهم يفتقرون الي المعرفة والوعي والمقدرة على التقدير والحكمة في التعاطي مع المشكلات والأزمات والصراعات السياسية السائد في كل نواحي الوطن هذه الايام. وان جل هؤلاء تغلب عليهم العاطفة على العقل، والاندفاع والتهور على التريث، والتخبط على التخطيط، وعدم إدراك عواقب الامور على تحديد الاهداف والاتفاق عليها مُسبقا. ولعل ما يجب التذكير به في هذه العُجالة هو ان فترة المراهقة السياسية هي من أخطر وأحرج المراحل التي يمر بها كل من يُريد ان يتعاطى السياسة وخصوصا الشاب.

نتائج انتشار ظاهرة السكرة السياسية 

الحقيقة ان هناك نتائج ضارة عديدة لانتشار هذه الظاهرة لعل من أهمها:

1. فوضى التحليل السياسي

لقد أصبح الحديث في السياسة اليوم حديت الجميع وللجميع ومع الجميع، وسواء كان ذلك بمناسبة او بدون مناسبة. الي درجة ان أصبح الجميع يتحدث ويناقش ويُجادل ولا أحد يستمع. ومن المحزن ان النقاش تضمن امور الكثيرون لا يفهموا تفاصيلها، ولا خلفياتها، ولا من هو وراء اهدافها الحقيقية، وفي الكثير من الاحيان يتحول النقاش إلى سجال وجدال لا طائل من ورائه. ليس هذا فقط بل إن تخصص العلوم السياسية والدبلوماسية والعلاقات الدولية لم تشهد إباحية واستخفاف بها مثل ما نشهده هذه الأيام في ليبيا. فالكثير من المراهقين السياسيين أصبحوا لا يكتفون بوصف أنفسهم بالباحثين والمحللين السياسيين، بل ان بعضهم أضاف الي نفسه صفة الخبير الاستراتيجي والامني والعسكري والدستوري أيضاً… والمؤسف ان ما يقوله هؤلاء لا يزيد في اغلب الاحيان عن آراء وانطباعات خاصة وتخمين تفتقد للمعرفة المتخصصة والمنهجية العلمية، ولا يمتلك صاحبها رصيد معرفي سوى متابعة الأخبار وصفحات التواصل الاجتماعي وامتلاك القدرة على الكلام في اي مناسبة تتاح له.

2. سياسة ملء الفراغ والأجندات الأجنبية

سياسة ملء الفراغ هي سياسة ظهرت أثناء الحرب الباردة (1950 – 1989). وقد تم تبني هذه السياسة من قبل الاتحاد السوفيتي وحلفائه من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة آخري بعد انسحاب القوى الاستعمارية التقليدية من كل من أفريقيا وأسيا وامريكا اللاتينية والشرق الأوسط، وذلك باستخدام وسائل عديدة لعل منها:

(أ) وقوف الأجندات الغربية خلف التمويل الأجنبي للجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني والحركات النسوية في العالم الثالث وخصوصا العاملة في مجالات الديمقراطية والسلام وحقوق الإنسان.

(ب) وقوف الأجندات الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي خلف التمويل الأجنبي للنقابات العمالية والاتحادات الطلابية في دول العالم الثالث.

(جـ) تمويل الجمعيات العاملة في مجال حقوق المرأة والمؤسسات الداعمة لدور الشباب في ادارة الدولة.

(د) ظهور الاجندات الاجنبية ودورها الواضح هذه الايام في عرقلة عملية المصالحة الوطنية ومفاوضات الحوار الليبي وتشكيل حكومة التوافق الوطني.

3. الازمات الاقتصادية والاجتماعية 

لقد أدّى هذا الوضع السياسي وتصارع الاجندات الاجنبية في ليبيا الى تمزق النسيج الاجتماعي وارتفاع مؤشرات التضخّم المالي الذي يهدد الاقتصاد الوطني ويضرب السوق المالية ونسق المبادلات التجارية. وإذا تطورت هذه الأزمة الى الأسوأ كما هو متوقّع فان التداعيات ستكون كارثية على الجميع، وسيكون لها تداعيات اجتماعية عديدة سلبية وخطيرة، وذلك بانتشار العديد من مشاريع واجندات الفساد والتخريب وخصوصا الساعية لتقسيم ليبيا وزرع الفتن بين مكوناتها الاجتماعية.

الخلاصة 

لعله من المناسب أن أختم هذا المقال بالتأكيد على مجموعة من النقاط:

1. لابد ان نعي بأن نشوة السكرة السياسية التي تمر بها النخب الليبية اليوم قد سببت لنا أضرار كثيرة وخطير، وعليه فلابد ان نعمل على الا تستمر هذه الحالة إلى مدة زمنية طويلة. وعلينا ان ندرك ايضا بان تعاطي السياسة هو امر خطير إذا لم يكن علي اسس صحيحة ومُنطلقة من قيم ومبادي راسخة… فهل آن الأوان للنخب السياسية الليبية ان تستفيق من سكرتها.

2. لابد ان نُدرك بأنه، إذا كانت السياسة هي فنّ الممكن والفوز بأقل الخسائر كما يقولون، فإن النشوة السياسية هي طلب المستحيل والتكبر وخسران كل شيء. وعليه فلابد ان نعي بان القليل من نشوة السياسة ضار، والكثير منها قاتل. وان من اهم الاسلحة للقضاء على النشوة السياسية هو التزود بالمعرفة والمنهجية الصحيحة والوعي والإدراك والحكمة في التعاطي مع المشكلات والأزمات والصراعات السياسية.

3. لحماية الذين يعيشون مرحلة المراهقة السياسية، لابد من قيام الدولة بإصدار قانون واضح ينظم كيفية تدفق أي أموال ومساعدات خارجية سواء كانت هذه الاموال للحكومة أو للمنظمات غير الحكومية، وعلى ان يكون أساس هذا القانون الوضوح والعلانية والشفافية، وعلى ان تكون كل الانشطة المُمولة قانونية والا تمثل تدخلا في المعترك السياسي الليبي (اي ان يُحظر دعم كل الحملات الانتخابية والمنظمات والأحزاب السياسية… أو أي نشاطات سياسية آخري). ويجب ان يشترط هذا القانون مُطالبة كل المنظمات غير الحكومية ذات النشاط السياسي والمُمولة من الخارج بالتسجيل بصفتها وكيل أجنبي. وان يقوم أيضا الأشخاص الذين يعملون بصفتهم وكلاء لموكلين أجانب بتقدم تقارير دورية تكشف علنا عن علاقتهم بالموكلين الأجانب وعن كل نشاطاتهم وعن مداخيلهم ومصروفاتهم دعما لتلك النشاطات.

أيها الاحباب لعلنا نتفق ان أحوال وطننا تُدمي قلب كل انسان شريف، وأنها أوضاع لا تسر الا العدو. وعليه فرجائي ودعوتي لكل مواطنة ومواطن غيور على هذا الوطن الجريح، وخصوصا الذين يتعاطون السياسة، بان يتحرى الحقيقة دائما، وان لا يعمل على تأجيج مشاعر الاخرين، وان لا يقوم بإشعال نار الفتن، وان يعرف ماذا يستطيع ان يقدم لهذا الوطن ويقف عند ذلك.

مرة آخري لابد ان أذكركم يا أحباب بان هذا مجرد راي

أعتقد انه الصواب.. فمن أتى براي أحسن منه قبلناه 

ومن اتي براي يختلف عنه احترمناه..

وبدلك أدعو الله أن أكون قد وفقت في المساهمة في إنجاح ثورتنا المباركة، وبناء دولتنا الدستورية الثانية…

والله المستعان.

د. محمـد بالروين

berween@gmail.com

* لقد سبق لي نشر هذا المقال في صحيفة “وطني” صحيفة أسبوعية شاملة. الصفحة (06) السنة الثالثة، العدد (104)، الاحد (ذو القعدة 1436 هـ) الموافق 16 أغسطس 2015. 

وفي موقع "عين ليبيا،" يوم الاحد 30 أغسطس 2015,  https://www.eanlibya.com/

وأيضا في موقع "ليبيا المستقبل " يوم 30 أغسطس 2015.                                             http://archive2.libya-al-mostakbal.org/news/clicked/78582

 

أخر مقالات نشرتها