Tuesday, November 15, 2011

من مفهوم المؤسسات السياسية (2 من 2)

من مفهوم المؤسسات السياسية (2 من 2 

حاولت فى الجزء الاول من هذا المقال تسليط بعض الضوء على مفهوم وطبائع ووظائف
وأنواع المؤسسات. وفى هذا الجزء الثاني (والأخير) سأحاول مناقشة
أهم معايير المؤسسات وظاهرة الإفلاس المؤسسي.
خامسا: معايير المؤسسات
هنا قد يسأل سائل فيقول ماهي أهم المعايير التي يجب الاهتمام بها لدراسة ما يمكن ان نطلق عليه بــ "العملية المؤسستيه." ولعله من المناسب قبل الحديت عن أهم المعايير أن نُعرف هذا المصطلح. وما أعنيه هنا بالعملية المؤسستيه هو محاولة مجتمع ما إضفاء الطابع المؤسسي (lnstitutionalization) علي كل تنظيمات وآليات وإجراءات الدولة. ولكي يتم إضفاء الطابع المؤسسي علي أي ممارسة أوعملية لابد من تحويلها من حالة إنعدام أوسوأ التنظيم وغياب الرسمية الي درجة عالية من الإتقان والتنظيم المتماسك والمؤتر والقائم علي الكفاءة والمنهجية العلمية. بمعني يمكن القول بأن المقصود بالمؤسستيه هو العملية التي بواسطتها تستطيع التنظيمات والآليات والاجراءات في مجتمع ما إكتساب قيمتها وتحقيق مشروعيتها والحصول علي إستقلالها وضمان إستقرارها بفاعلية ونجاح. وفي إعتقاد الأغلبية العظمي من علماء السياسة اليوم ان عملية المؤسساتية هي من أهم الشروط الضرورية لبناء وتطوير الدول الحديته. وعليه فللإجابة علي السؤال -- ماهي أهم المعايير التى يجب توفرها لإضفاء الطابع المؤسسي علي التنظيمات والآليات والاجراءات في الدولة؟ يقترح البروفسور "صموئيل هنتنغتون" في كتابه "النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة (1968)" بإنه يمكن التعرف علي درجة المؤسستية في أي مجتمع بإستخدام المعايير الأربعة التالية:

(1) التكيف .. أم .. الجمود:
بمعني كلما كان التنظيم أوالاجراء قادر علي التكيف والتأقلم مع بيئته والتحديات التى تواجهه كلما سهلت عملية إضفاء الطابع المؤسسي عليه والعكس صحيح -- أي من الصعب إضفاء الطابع المؤسسي علي التنظيمات الجامدة والغير قادرة علي تلبيت حاجات ورغبات المواطنيين. ويمكن قياس درجة مرونة أوجمود أي تنظيم أوإجراء بأساليب عديدة لعل من أهمها: (أ) العمر: بمعني قياس العمرالزمني للتنظيم وهذا يعني محاولة معرفة متى ثم إنشاء هذا التنظيم. وهنا يمكن أفتراض انه كلما طالت المدة علي وجود التنظيم كلما ارتفع مستوى المؤسستيه فيه. (ب) الأجيال: بمعني معرفة عدد الاجيال التى إستخدمة هذا التنظيم. وعليه يمكن القول بأنه ما دام التنظيم لا يزال يُدار بنفس المجموعة التى أسسته فإن قدرة هذه التنظيم على التكيف لا تزال في شك ومن الصعب الحكم علي نجاحها. و(ج) الوظائف: بمعني تقوم في العادة التنظيمات لتحقيق غاية أوغايات يمكن تحقيقها في فترة زمنية محددة. فعندما تتغير هذه الغاية أويتم زوالها يواجه التنظيم الغير قادرة علي التكيف مأزق ويصبح التحدي المهم أمامه هو -- إما ان يسعي لإيجاد غاية وهذف جديد أوإنه سيكون عُرضة للزوال. وعليه يمكن القول بان التنظيم الذي إستطاع تكييف نفسه مع المتغيرات والتحديات في محيطه ونجح أكثر من مرة في تطوير وظائفه هو الذي سيكون أكثر قابلية لإضفاء الطابع المؤسسي عليه.

(2) التعقيد .. أم .. البساطة

بمعني كلما كبرت المؤسسة وإزدادت درجة تعقيدها كلما أرتفعت درجة إضفاء الطابع المؤسسي عليها. والمقصود بمفهوم "التعقيد" هنا هو البعد الإيجابي وليس السلبي فيه -- أي إن التنظيم قد أصبح تنظيما مُتنوع ومُركب وذلك كأن يشمل تنوع الوحدات التنظيمية وإختلاف وظائفها وأزدياد عدد العاملين أوالمنتسبين لها. وبمعني ان المنظمة التي تقوم بوظائف متعددة هي أكثر قابلية لإضفاء الطابع المؤسسي عليها من أي منظمة آخري تقوم بوظيفة واحدة. وبمعني آخر كلما كانت المنظمة بسيطة كلما فشلت في عملية المؤسستيه. والمقصود بالمنظمة البسيطة هنا هي التى تقوم في العادة بتحقيق هدف واحد وتعتمد علي شخص أوأشخاص معدودين يسيطرون علي كل امورها.

(3) الإستقلالية .. أم .. التبعية

المعيار الثالث الذي يمكن إستخدامة لقياس درجة إضفاء الطابع المؤسسي علي منظمة ما هو إلى أي مدى يمكن وجود تنظيم سياسي مستقل في إتخاد قرارتها عن غيره من التجمعات السياسية والاجتماعية الآخري. ففي المجتمات المتقدمة تملك المنظمات السياسية درجة عالية من النزاهة والاستقلالية التي ساعدتها علي إضفاء الطابع المؤسسي عليها بسرعة وسهولة وتمكنها من الإستجابة لكل التحديات التى وتاجهها. وللأسف الشديد إن هذا البعد هو ما تفتقر له المنظمات السياسية في دول ما يُعرف اليوم بالعالم الثالث. بمعني إن جُل المنظمات السياسية في الدول النامية تفتقر الي أقل درجات الإستقلالية بل والأسوأ من كل ذلك إنها تفتقر حتى للنزاهة والمصداقية.

(4) التماسك .. أم .. التفكك:
بمعني بسيط ومُختصر -- كلما كانت المنظمة السياسية مُتحدة ومُتماسكة كلما كانت أكثر قابلية لإضفاء الطابع المؤسسي عليها والعكس صحيح.

سادسا: ظاهرة الإفلاس المؤسسي

توجد هذه الظاهرة في مجتمع ما عندما تعجز دولته علي إنشاء مؤسسات عصرية ومتطورة وقادرة علي الإستجابة لتحديات المستقبل. وإن عجز المؤسسات الحكومية علي القيام بالوظائف الأساسية المنوطة بها يدفع بالإفراد في المجتمع للبحت عن وسائل ومؤسسات آخري حتى ولو كانت غير رسمية (أوقد تكون في بعض الاحيان غير شرعية) لتحقيق أهدافهم الخاصة. فعلي سبيل المثال عندما عجزت المؤسسات الرسمية في نظام القدافي وبعد أربعين سنة من الحكم علي تحقيق رغبات أبناء الشعب لم يكن لهم سبيل الا اللجوء الي مؤسساتهم التقليدية وخصوصة القبيلة والعشيرة والطائفة (بل وحتى المنطقة أوالجهة لأولئك الذين ليس لهم قبائل ولاعشائر) مما جعل هذه المؤسسات التقليدية وللإسف الشديد الملجأ والمأوي والركيزة الرئيسية لتحقيق مصالح ورغبات المواطنيين وخصوصا الشخصية منها. ففي الوقت الذي يلتقي فيه المواطنيين في الدول المتقدمة والمتحضرة علي أساس القيم والأفكار والبرامج هاهم المواطنيين اليوم في ليبيا يلتقون علي أساس قبلي وجهوي وطائفي بل وحتى عرقي! وقد يسأل البعض عن ما هو السبب؟ والحقيقة التى لا يجادل فيها الا مًكابر إن العامل الأساسي هو إفلاس مؤسسات الحكم وفشل الدولة في ليبيا. وكل هذا قاد الي ان تصبح الدولة في ليبيا اليوم في وضع متدهور وفشلت في كل ما حاولت القيام به من مهام أساسية. وأصبحت تدار من قبل أفراد الأكثرية منهم غير مُؤهلين وبعضهم مُفلسين فكريا ومعنويا والأسوأ من كل هذا إن أهم معاييرهم للنجاح وتسيير شئون الدولة هو المداهنة والمحاباة والرشوة والغش وسرقة أموال الشعب. وفي هذه الأوضاع الحرجة والظروف الصعبة لم يجد الأغلبية العظمي من أبناء الشعب وخصوصا الشباب منهم أي مؤسسة يمكن أن تجمعهم الا مؤسسات اللعب والطرب والترفيه والاشتراك في نشاطات النوادي الرياضية. فقد أصبح اليوم علي سبيل المثال في وطني الحبيب ليبيا من السهل أن تجتمع عشرات الآلاف من الجماهير لمشاهدة مبارة كرة قدم بحماس منقطع النظير قد يصل في بعض الاحيان الي درجة الغضب والصدام , في الوقت الذي لا يستطيع فيه أي مواطن سياسي مهما كانت مكانته ان يُجمع عدد بسيط من المواطنيين للمطالبة بأي حق لهم أومناصرة أي قضية مهما كانت هذه القضية عادلة. فعلي سبيل المثال لقد خرج يوم الجمعة الموافق 23 أبريل 2010 أكثرمن 80 الآلف مواطن لمشاهدة وتأييد نادي الاتحاد ضد نادي الأهلي المصري. وعندما إنتصر نادي الاتحاد بهدفين مقابل صفر عمت الفرحة كل أرجاء البلاد وأرتفعت أصوات التهليل والتكبير في كل مكان. والحق يُقال إن هذا شيء جميل أن يري الانسان أبناء شعبه وهم يتمتعون باللعب والترفيه والانتصار ولكن من المؤسف أن يشاهد المرء فى اليوم الثاني لهذه المبارة (أي يوم السبت الموافق 24 أبريل 2010) ان الذين خروجوا للمشاركة في إعتصام أهالي مذبحة سجن بوسليم التى ذهب ضحيتها أكثر من 1200 إنسان مظلوم لم يزد عددهم عن عشرين مواطن أغلبهم من الاطفال والنساء والشيوخ. وهنا قد يسأل سائل ويقول: ماهو الدرس المستفاد من هذين الحدتين؟ والحقيقة إن هناك دروس وعبر كثيرة يمكن إستخلاصها من هذه الظاهرة لعل من أهمها: (أ) ان النوادي الرياضية قد أصبحت اليوم مؤسسة من أهم المؤسسات وعلي وجه الخصوص في الدول التى تحكمها أنظمة شمولية دكتاتورية وفي مقدمتها الدول العربية. وان كل الانظمة الدكتاتورية قد نجحت في إحتواء الرياضة والفن والغني والترفية وقامت بتسخيرها لخدمة أغراضها وبذلك نجحت في تحويل رغبات وسلوكيات الجماهير وخصوصا المنتسبين لهذه المؤسسات في الاتجاه الذى تريده هذه الانظمة. وبذلك إستطاعت إبعاد الجماهير عموما والشباب خصوصا عن الأهتمام بالقضايا المصيرية التى تواجه الوطن. و(ب) محاولة فهم دور القبيلة والعشيرة في المجتمعات علي أنها مؤسسات إجتماعية تقليدية يلتجىء لها الافراد عندما تفشل الدولة في بناء مؤسسات عصرية مناسبة تنطلق من الأفكار الحية وتعمل علي تجسيدها في برامج عملية. ففي الدول المتقدمة تُلزم الدولة مواطنيها (حتى الذين تحصلوا علي الجنسية بالأمس) بأحترام القانون والالتزام بالعقلانية وتبني الثقافة المؤسساتية. فعلي سبيل المثال من الطريف (والمحزن في نفس الوقت) إنك تجد الانسان العربي والمسلم ما إن يدهب الي أمريكا أوأوروبا ويتحصل علي جنسية الدولة التى ذهب لها حتى يبدا في التصرف وكأنه مواطن صالح ومُتحضر – أذ يقوم بحترام القوانين ودفع الضرائب والمحافظة علي النظام , وحتى عندما يحاول مُخالفة قانون ما تجده يقوم بذلك عن طريق إستغلال نقاط الضعف في القانون وليس محاولة خرقه.... والعجيب حقا إن نفس هذا الانسان ما ان يرجع الي بلده الاصلي في الوطن العربي أوالاسلامي حتى يعود كما كان! ... لماذا؟ ببساطة جدا: لان في أوروبا هناك قوانين صارمة ومؤسسات فاعلة وحُكام يخافون الشعب. أما في الوطن العربي والاسلامي فالعكس هو الصحيح تماما --- فلا وجود للمؤسسات ولا إحترام للقوانين ولا سيادة الا للحاكم الاوحد الذي فرض نفسه وإستخف بشعبه وأصبح هو وعائلته المؤسسة السياسية الوحيدة في الوطن.

الخاتمة

لعله من المناسب أن أختم هذا المقال بالتأكيد علي: (1) ضرورة وجود المؤسسات في المجتمع لأنها الشرط الاساسي لإضفاء المشروعية علي تصرفات الدولة وهى أهم ما يُميز الدول المتحضرة عن الدول المتخلفة. (2) ضرورة أعتبار المؤسسات الآليات الرئيسية في بناء الدولة ... والعمليات التى ستحكم وتوجه سلوكيات وتصرفات المواطنيين ... والركائز التى يقوم عليها كل مجتمع. (3) ضرورة إقامة مؤسسات مستقلة وقادرة علي الإستجابة للتحديات التى تواجة الدولة حتى تكون النتيجة النهائية هي تطور المجتمع ورفاهية الشعب. إن وجود المؤسسات القوية والقادرة هي الوسيلة الوحيدة للقضاء علي ثقافة الإستبداد التى حكمت مجتمعاتنا لسنوات عديدة من الزمن , والتى لم ينتج عنها الا المزيد من الفساد والدمار وإهانة الإنسان. (4) ضرورة النظر للمؤسسات علي إنها أماكن لممارسة الحقوق وإتخاد القرارات وإدارة شؤون الدولة. (5) ضرورة العمل علي أن تكون الموسسات مراكز للتعارف والتعلم والتواصل بين كل أبناء الشعب. (6) ضرورة إرتباط المؤسسات مع بعضها البعض لكي تكتمل الصورة ويتقدم المجتمع ويسعد الانسان. (7) ضرورة قيام المؤسسات علي أساس القيم والافكار والبرامج حتى لا يضطر أفراد المجتمع للرجوع لإنتماءتهم التقليدية سوأ إن كانت قبلية أوجهوية أوعرقية أوأي شىء آخر. ولابد علي كل من يريد التغيير ان يعي بأن المشكلة الرئيسية لا تمكن في إنتماء الافراد الي مؤسساتهم التلقيدية فهذا أمر طبيعي ومتوقع, وإنما المشكلة تكمن في غياب المؤسسات الحديتة كبديل ضروري للمؤسسات التقليدية وكشرط أساسي لبناء الدولة وإجبار المواطنيين علي تغيير إنتماءتهم وولاءاتهم. (8) وآخيرا ضرورة السعي لبناء دولة المؤسسات لإنها هي التجسيد الحقيقي والعملي للدستور. فلا يمكن وجود دولة دستورية عادلة الا اذا كانت دولة مؤسسات , ولا يمكن لدولة دستورية أن تستمر بفاعلية وتأتير الا اذا تم تجسيدها في شكل مؤسسات حديتة ومتطورة. والحقيقة إنه لا قيمة للدستور مهما كان مقدسا في غياب المؤسسات. فالدستور والمؤسسات وجهان لعملة واحدة ولا يمكن فصلهما عن بعضهم البعض ... . وبإختصار شديد يمكن القول بأن الدولة الدستورية هي بالدرجة الأولي دولة مؤسسات , وعند وجود المؤسسات سيُحترم الدستور وتُقام الدولة التى يحلم بها الخيّرين في كل أنحاء الوطن.

ختاما يا أحباب مرة آخر لا تنسوا إن هذا مجرد راي ... أدعو الله عز وجل ان اكون قد ساهمت فى بناء دولة المؤسسات التى يحلم بها الجميع ...

والله المستعان.

د. محمد بالروين
Berween@hotmail.com
_________________________
المراجع :
Samuel Huntington (1968), “Political Order in Changing Societies.” New Haven: Yale University Press

No comments:

Post a Comment

أخر مقالات نشرتها