Sunday, November 09, 2025

البارا دايم* السياســية من منظور إسلامي (4 من 5)

البارا دايم* السياســية

من منظور إسلامي

  

(4 من 5)

 

د. محمـد بالروين

 

 

حاولت في الجزء الأول من هذا المقال تسليط بعض الضوء

على معنى "البارا دايم السياسية الثانية"، 

وفي الجزء الثاني ناقشت أهم أهدافها، 

وفي الجزء الثالث شرحت أهم مبادئها، 

وفى هذا الجزء سأحاول الإشارة لأهم وسائلها.

 

الوسائل

لعل من أهم الوسائل التي تقود إلى تأسيس دولة حرة وعادلة وحديثة ومُزدهرة، هي الآتي:

 

         الكفاءة  +  التيسير  +  الأولويات

 

أولاً: الكفـاءة

الوسيلة الضرورية الأولى لبارا دايم السياسية الثانية" هي درجة الكفاءة

بمعني كل الوظائف في الدولة يجب أن يتولاها:

 

"الأكفأ.. وليس بالضرورة.. الأتقياء".

 

يقول رسولنا ﷺ في هذا الشأن:

" من وليَ من أمر المسلمين شيئا،

فولي رجلا وهو يجدُ من هو أصلح للمسلمين منه،

فقد خان الله ورسولهُ"

[رواه الحاكم في صحيحه، راجع: بن تيمية، 1983، ص 9].

 

ويقول الإمام أبن تيمية رحمه الله في هذا الشأن بأن "اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل"، 

ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:

"اللهم أشكو اليك جَلَدَ الفاجر، وعجز الثقة".

 

فإذا ترشح شخصان لمنصب ما، أحدهما أعظم أمانة، والأخر أعظم قوة، 

 

"قُدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهم ضررا فيها"،

 

فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أمينا.

سُئل الإمام أحمد:

أي الرجلين يكونان أميرين في الغزو،

أحدهما قوي فاجر،

والأخر صالح ضعيف،

مع أيهما يُغزى؟

قال الإمام: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه،

وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين،

فيغزى مع القوي الفاجر. 

 

وقد قال النبي ﷺ:

"إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"، وفي رواية "بأقوام لا خُلق لهم".

 

ولهذا كان النبي ﷺ قد استعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم،  

وقال: "إن خالدا سيف من السيوف سله الله على المشركين".

مع أنه أحيانا كان قد يعمل ما ينكره النبي ﷺ.

 

 ومن جهة أخرى، كان أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، أصلح في الأمانة والصدق، ومع هذا فقد روي أن النبي ﷺ قد نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية لأنه رآه ضعيفا، وقال له النبي ﷺ:

"يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي:

لا تُأمَّرنَّ عَلى إثنين، ولا توّلَّين مال يتيم"

(رواه مسلم).

 

 وعند الهجرة إلى المدينة وقع اختيار الرسول لمهمة "الدليل" (أي الخبير بدروب ومسالك الصحراء) "على واحد من المشركين في مكة هو عبد الله بن أريقط" (للمزيد راجع: هويدي، 1982، ص 230).

يعلق الشيخ محمد الغزالي في كتابة "فقه السيرة" على هذه القصة فيقول: "أن الرسول ﷺ قد استأجر دليلا خبيرا بطريق الصحراء ليستعين بخبرته على مُغالبة المطاردين له، ونظر في هذا الاختيار إلى الكفاءة وحدها، فاذا اكتملت في أحد ولو كان مشركا أستخدمه وأنتفع بمواهبه" (للمزيد: راجع: الغزالي، 171). 

 

وعندما أرسل رسولنا ﷺ "أصحابه في "سرية الساحل" وكان فيها أبو بكر الصديق

وعمر بن العاص جعل عمرو بن العاص أمير على هذه السرية،

وعندما ذهبوا أراد بعض الصحابة ذات ليلة أن يوقدوا نارا بالليل،

فقال لهم عمرو بن العاص "من أوقد نارا ألقيته فيها"،

فلما رجعوا إلى الرسول اشتكى أبو بكر وعمر بن الخطاب من موقف عمرو.

ولما سأله الرسول،

قال عمرو: يا رسول الله خُفت أن يقدوا نارا ونحن في أرض العدو فتدل النار علينا،

فأقره الرسول على عمله،

فقال عمر بن الخطاب "لقد غاب عنا ما رأى، ولله در عمرو"،

(للمزيد راجع: عبد الباقي، ص 9).

  

باختصار لقد شجع رسولنا المسلمين على طلب العلم والمعرفة والتخصص

والخبرة والاحتراف قائلا:

"إن الله يحب العبد المحترف ويكره العبد البطال"

(للمزيد راجع: الخياط، ص 84).

 

وقال في مكان آخر:

"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عمل أن يثقنه".

 

ثانياً: التيسير

أما الوسيلة الضرورية الثانية "للبارا دايم السياسية الثانية" هي العمل على تيسير الأمور وتسهيلها قدر الإمكان. ومن مسلمات واساسيات هذه الوسيلة الأخذ بمبدأ

"نفى الحرج"،

تأكيداً لقول الله تعالى:

"يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"(البقرة، 185).

 

وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال:

"ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما كان العنف في شيء إلا شانه"

(راجع: بن تيمية، 1983، ص 116).

 

وعندما بعث الرسول ﷺ معاذ بن جبل وأبي موسي الأشعري إلى اليمن قال لهما: "يسرا ولا تعسرا، 

وبشرا ولا تنفرا..."(راجع: بن تيمية, 1983, ص117).

 

وقوله ﷺ "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا"(رواه البخاري).

 

وقوله ﷺ "من يحرم الرفق، يحرم الخير كله" (رواه مسلم).

 

وقوله ﷺ "لا يرحم الله من لا يرحم الناس" (رواه مسلم).

                                                   

وقوله ﷺ "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق" (رواه الإمام أحمد).

                                       

وقوله ﷺ "إن دين الله عز وجل يسر"(رواه البخاري والنسائي، راجع: عمارة، 1991 ص 53).

                            

وقوله ﷺ "إنكم أمة أريد بكم اليسر، وإن خير دينكم أيسره"(رواه الإمام أحمد).

 

وقوله ﷺ عن عائشة رضى الله عنها: "ما خُيّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما

(رواه البخاري ومسلم وأبو داود ومالك).

          

ويقول ﷺ "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"(راجع: بن تيمية، 1983، ص 71).

  

وقوله "خير الناس أنفعهم للناس" (رواه جابر، راجع الخياط، 1975، ص62).

 

باختصار، يجب ان تكون قوانين وتشريعات الدولة

للتيسير لا للتعسير، وللتسهيل لا للتشديد على المواطنين.

  


ثالثاً: الأولويات

أما الوسيلة الضرورية الثالثة "للبارا دايم السياسية الثانية" هي تبنّي واستخدام "سلم الأولويات" في العمل والتنفيذ. والمقصود بذلك هو محاولة تصنيف وترتيب القضايا والأشياء والأمور في تسلسل هرمي، وبناءً على معايير محددة، ومتفق عليها، من "الأهم" ثم "المهم" ثم "المقبول" ثم غير المقبول حسب أهميتها واحتياجات الدولة لها. ويمكن اعتبار "سلم الأولويات" من أهم الخطوات الضرورية في عملية التنفيذ الإداري الحديث.

 

بمعني آخر، يمكن اعتبار "سلم الأولويات" مهارة ضرورية يحتاجها صُناع القرار في الدول المتخلفة لمواجهة المشاكل والتحديات العديدة التي يوجهونها، ولتمكنهم من القضاء على التخبط السياسي والفوضى الإدارية التي يعيشونها.

 

ولعل من أهم الأدلة على غياب سلم الأولويات في سياسات ومشاريع الدول المتخلفة، وخصوصا العربية والإسلامية، هو ازدياد تفرقهم، وحدّة خصوماتهم، وبشاعة صراعاتهم مع بعض، حول قضايا أغلبها تافهة ووهمية ومصطنعة.

 

ولعل الرسم التوضيحي الآتي يوضح الفرق الشاسع بين مناهج التفكير والعمل في كيفية التعامل مع القضايا المختلفة، ومواجهة التحديات المعقدة بين الدول المتقدمة والمتخلفة!

 


هذا الشكل التوضيحي يشير، باختصار شديد وبكل وضوح، أن "مثلث سلم الأولويات" 

للتوافق على مواجهة القضايا والتحديات في الدول المتخلفة "مقلوب

 

وعليه،

 

"لابد من قلب المقلوب لكي يعتدل"!!

 

هذه هي "كبد الحقيقة" أو "مربط الفرس" كما يقول العرب، وهذه هي نقطة الانطلاق  

إذا أرادت الشعوب المتخلفة أن تتقدم وتلتحق بعصر الحداثة والتقدم والازدهار!    

 

فالعملية بسيطة جداً، إذا أرادت الدول المتخلفة النجاح والتقدم،

ما عليها إلا أخذ أحسن ما عند الغير على ألا تفقد أحسن ما عندها.

في الجزء الخامس (والأخير) من هذا المقال بأذن الله

سوف أحاول تسليط بعض الضوء على

أهم العوائق التي تواجه "البارا دايم السياسية الثانية".

يتبع...

والله المستعان.

 

======

المراجع  

* البارا دايم هي مصطلح سياسي ليس له مرادف دقيق في لغتنا العربية، وعليه ومن باب تحرى الدقة في التعبير حاولت استخدامه كما هو.

                                                                                                                                              

د. عبد العزيز الخياط (1986) "المجتمع المتكامل في الإسلام"، دار السلام، القاهرة، الطبعة الثالثة.

 

الإمام تقي الذين أبو العباس أحمد بن تيمية، "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، دار الافاق الجديدة – بيروت، الطبعة الاولي، 1983، ص 23.

 

الشيخ محمد الغزالي، "فقه السيرة"، ص 171

 

د. زيدان عبد الباقي، "أسس المجتمع الإسلامي والمجتمع الشيوعي دراسة مقارنة"، ص 9.

 

فهمي هويدي "القرآن والسلطان: هموم إسلامية معاصرة"، دار الشروق، الطبعة الثانية، 1982.

 

د. عبد الحميد متولي (1985) "أزمة الفكر الإسلامي السياسي في العصر الحديث: مظاهرها، أسبابها، علاجها" القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثالثة، ص 252"

 

د. محمد عمارة (1991) "من المنهج الإسلامي"، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الاولي،

 

د. الحبيب الجنحانى "التحول الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع صدر الإسلام،" دار الغرب الإسلامي بيروت لبنان، 1975.

 

No comments:

Post a Comment

أخر مقالات نشرتها