Wednesday, November 05, 2025

البارا دايم* السياســية من منظور إسلامي (3 من 5)

البارا دايم* السياســية

من منظور إسلامي

  

(3 من 5)

 

د. محمـد بالروين

 

 

حاولت في الجزء الأول من هذا المقال تسليط بعض الضوء

على معنى "البارا دايم السياسية الثانية"، وفي الجزء الثاني ناقشت  

أهم أهدافها، اما في هذا الجزء سأحاول مناقشة أهم مبادئها.

 

المبادئ

لعل من أهم المبادئ التي يجب أن تنطلق منها البارا دايم السياسية الثانية الآتي:

1.. مبدأ سمو الشريعة وسيادة القانون.

 2. مبدأ جلب المصلحة.

3. مبدأ دفع الضرر.

4. مبدأ الإعداد والاستعداد.

 

 

 

أولاً: مبدأ سمو الشريعة وسيادة القانون:

 

إن الركن الأول والأساسي في بناء "البارا دايم السياسية الثانية" هو قيامها على مبدأ:

"سمو الشريعة وسيادة القانون".

 

هذا المبدأ يعني باختصار أن الدولة الإسلامية، بالدرجة الأولى، هي دولة قانون قائم على العدل والاختيار والشورى 

والتعاون، وأن القانون فوق الجميع، وإنه لا شيء في هذه الدولة له قداسة إلا القرآن الكريم وما ثبت من سنة نبينا 

محمد ﷺ، أي أن ما جاء به القران الكريم والأحاديث النبوية (قطعية الدلالة والثبوت) لا يجوز رفضها ولكن     

يجوز الاجتهاد في فهمها.

 

 

بمعني آخر، يجب أن يكون "مبدأ سمو الشريعة وسيادة القانون" هو أساس القانون الدستوري، وأن يكون  

"المرجعية العلياوإذا تعارض أي قانون مع نصوص القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية قطعية الدلالة والثبوت،  

يعتبر هذا القانون ملغي.

 

 

ولعل أهم وظيفة لهذا المبدأ هي ضمان علوية الدستور على قوانين الدولة، وأُنشاء إطار قانوني موحد يُعزز سلطاتها 

ومؤسساتها، ويعطي الأسبقية لما نص عليه الدستور على كل القوانين والمعاهدات عند تعارض الاختصاصات.

 

 

ولعل خير مثال على تطبيق هذا المبدأ، في العصر الحديث، هو ما نصت عليه المادتان (5 - 40) من الدستور الليبي 

الذي اصدرته الجمعية الوطنية الليبية، في 7 اكتوبر 1951، إذ نصت المادة (5) على أن:

 "الإسلام دين الدولة".

 

ونصت المادة (40) على أن:

"السيادة لله وهي بإرادته تعالي وديعة الأمة، والامة مصدر السلطات".

 

 

 

عليه إن أحوج ما تحتاجه الدول الإسلامية اليوم هو وجود وثائق دستورية وقانونية لا تتعارض مع مقاصد شريعتنا 

السمحاء، وتمكن الشعوب عندما تكثر مسائلهم واختلافهم حول قضايا معينة من الاحتكام لهذه الوثائق الدستورية 

والأخذ بما نصت عليه.

 

 

ثانياً: جلب المصلحة

 أما في الامور التي لا نص فيها (أو فيها نص ظني ويحتمل أكثر من تفسير أو تأويل) فالشعار يجب أن يكون:

"حيت ما توجد المصلحة فثم شرع الله".

 

 

وفي هذا الصدد يُعرف فقهاء الأمة المصلحة على أنها:

"كل ما يجلب منفعة أو يدفع مضرة".

 

 

 

وقد صنف الفقهاء المصالح إلى ثلاث أنواع:

 

(1) مصالح مُعتبرة:

 هي التي عرفها الشرع ووضع لها الأحكام والشروط التي تؤدي إلى تحقيقها، كالحفاظ على النفس والعقل والمال 

والدين والنسل ورفع الحرج على الناس.

 

 

(2) مصالح مُلغاة:

هي التي وضع لها الشرع أحكام تدل على بطلانها ونهى عنها صراحة، وذلك لأنها إما أن تكون غير حقيقية (أي 

وهمية) أو تتعارض مع ما جاء به الشرع. والأمثلة على ذلك كثيرة منها مصلحة كسب المال من القمار أو الربا، 

ومصلحة كسب المال من الرشوة.

 

 

(3) مصالح مُرسلة:

هي التي لم يقر الشرع باعتبارها ولا بإلغائها، وهناك أمثلة عديدة لهذا النوع من المصالح في تاريخنا الإسلامي منها 

على سبيل المثال:

 

 

(أ) مصلحة جمع المصحف الشريف في عهد سيدنا أبو بكر للمحافظة عليه، ثم توحيد المصحف في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنهما.

 

 

(ب) إنشاء الدواوين في بداية الدولة الإسلامية. فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من دون للناس 

في الإسلام، وكتب الناس على قبائل وفرض عليهم العطاء (للمزيد راجع: الجنحانى, 1975, ص 19).

 

 

(جـ) إنشاء المؤسسات بكل أنواعها واشكالها في الدول الإسلامية الحديثة.

 

 

(د) لم يتم اعتماد عُملة رسمية للدولة الإسلامية إلا في عهد عبد الملك بن مروان. أي لم تسك عُملة جديدة في عهد 

الخلفاء الراشدين، بل أستعمل المسلمين العملات الساسانية والبيزنطية المتداولة إلى خلافة عبد الملك بن مروان (65 

- 86 هـ) وهو الذي سك لأول مرة عملة إسلامية" (للمزيد راجع: الجنحانى, 1975, ص 40).

 

 

(هـ) إنشاء المصارف والشركات المالية المختلفة في الدولة الإسلامية الحديثة.

 

 

(و) بناء المنارات في المساجد للإعلان عن دخول وقت الصلاة، واستخدام الميكروفونات لرفع الأذان وتوصيل 

الخطب والمواعظ للجميع.

 

 

ثالثاً: دفع الضرر

يقول رسولنا "لا ضرر ولا ضرار" (رواه أحمد عن أبن ماجه عن أبن العباس). هذا يعني، باختصار، كما قال 

الفقهاء في هذا الصدد أن المرء يجب أن "لا يبتدئ غيره بالضرر، ولا يُقابل الضرر بضرر مثله" (راجع: الخياط، 

ص 156). والهدف هو تحقيق العدل والسلام والأمن والأمان، وحماية حقوق المواطنين في جميع مناحي الحياة، 

وتعزيز روح التعاون والتكامل بين أفراد المجتمع.

 

 

 

رابعاً: الإعداد والاستعداد

بمعني لابد على المواطنين في الدولة من بدل كل ما في استطاعتهم لبناء دول حرة وعصرية وقوية وعادلة، وذلك 

لأنه لا بديل عن القوة لتحقيق أهداف ومصالح أي دولة تريد الاستقلال والاستقرار والتقدم والازدهار. وإنه لا مجال 

لأي شعب مظلوم أو محروم من تحقيق حريته إلا بامتلاك القوة. ولهذا أمر الله عز وجل، في آيات عديدة، المسلمين 

بالإعداد والاستعداد، لعل من أهمها:

 

"وأَعدوا لَهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو اللّه

وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم"

(الانفال، 60).

 

 

وقول رسولنا ﷺ:

"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف،

وفي كل خير".

 

 

وعليه فإن اكتساب القوة وزيادتها والمحافظة عليها هو أساس العلاقات بين الدول، لأن العلاقات الدولية، في اغلب 

الأحيان، تقوم على أساس:

 

"لعبة المحصلة الصفرية".

أي أن الرابح يأخذ كل شيء، والخاسر يخسر كل شيء.

 

 

وهنا لابد من التنويه على أن امتلاك القوة يستلزم الاستخدام الشرعي والمشروع لها -- بمعنى القوة ضرورية لتحقيق 

الحكم ولكن لكي يكون الحكم إسلاميا لابد أن يكون شرعياً، يقول الله تعالي في هذا الصدد:

 

"فَاتقوا اللَّه ما استطعتم واسمعوا وأَطيعوا وأَنفقوا خيرا لأَنفسكُم ۗ

ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المُفلحون"
(سورة التغابن: 16)

 

 

ومن جهة أخري، لكي يكون الحكم عادلا، لابد أن يكون مشروعا، أي مقبولا للمواطنين، يقول رسولنا ﷺ:

"ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم،

فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم".

(رواه البخاري ومسلم).

 

 

في الجزء الرابع من هذا المقال بأذن الله

سوف أحاول تسليط بعض الضوء على

أهم "وسـائل" البارا دايم السياسية الثانية.

 

يتبع... 

 

والله المستعان.

=======

المراجع  

* "البارا دايم" هي مصطلح سياسي ليس له مرادف دقيق في لغتنا العربية، وعليه ومن باب تحرى الدقة في التعبير حاولت استخدامه كما هو.


د. عبد العزيز الخياط (1986) "المجتمع المتكامل في الإسلام." دار السلام، القاهرة، الطبعة الثالثة.

 

الامام تقي الذين أبو العباس أحمد بن تيمية "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. دار الافاق الجديدة – بيروت، الطبعة الاولي , 1983 ص 15.

 

الشيخ محمد الغزالي، "فقه السيرة" ص 171

 

د. زيدان عبد الباقي، "أسس المجتمع الإسلامي والمجتمع الشيوعي دراسة مقارنة."  ص 9.

 

فهمي هويدي "القرآن والسلطان: هموم اسلامية معاعرة." دار الشروق. الطبعة الثانية. 1982.

 

د. عبد الحميد متولي (1985) "أزمة الفكر الإسلامي السياسي: في العصر الحديث: مظاهرها، أسبابها، علاجها." القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب. الطبعة الثالثة. ص 252"

 

د. محمد عمارة (1991) "من المنهج الإسلامي." المعهد العالمي للفكر الإسلامي. الطبعة الاولي.

 

د. الحبيب الجنحانى "التحول الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع صدر الاسلام." دار الغرب الإسلامي بيروت لبنان, 1975, ص

 

No comments:

Post a Comment

أخر مقالات نشرتها