والموجات
الثلاث للغطرسة الامريكية
(2 من 3)
د. محمـد بالروين
في الجزء الأول من هذا المقال حاولت تسليط الضوء على مفهوم وركائز
وأدوات غطرسة القوة, أما في هذه الجزء الثانى سأحاول الحديث عن
"الموجتين – الأولي والثانية" للغطرسة الامريكية
وتأثيرها على المجتمع الدولي.
قبل الحديث عن الثلاث موجات للغطرسة الامريكية، لعله من المناسب، أن أُذكر القارئ، بأن أهم سبب لنجاح (أو فشل) الدول عبر تاريخها، هو قادتها السياسيين (أي رؤسائها)، ولهذا يقول المؤرخ الامريكي ستيفنسون، في دراسة له عام 1984، أن التاريخ الأمريكي هو، إلى حد كبير، تاريخ الرئاسة الأمريكية، أي تاريخ رجال ارتقوا إلى مستوى مطالب عصرهم في مكتب منحهم سلطة الحكم"(ستيفنسون 1984، 18).
من هذه فرضية يمكن القول ان "تاريخ الأمم يصنعه حكامها", وأن غطرسة القوة التي عاشتها (وتعيشها) امريكا، هي في الحقيقة نتاج سياسات وسلوكيات رؤسائها، ولتوضيح ذلك دعونا نُشير، إلى أخطر ثلاث موجات غطرسة القوة التي عاشتها امريكا منذ منتصف القرن الماضي.
الموجة الأولي للغطرسة الامريكية
بدأت هذه الموجة الأولي للغطرسة الامريكية عام 1961، عندما أعلن الرئيس جون كينيدي، حملته العسكرية في فيتنام لمساعدة الحكومة القومية ضد التمرد الشيوعي، واستمرت أكثر من 22 سنة.
ونتيجة لهذه الغطرسة، ألف السيناتور ج. ويليام فولبرايت (1905-1995)، عام 1966، كتاب بعنوان "غطرسة القوة" يقول فيه أن بلاده تبنّت رؤية الرئيس ثيودور روزفلت التي تنادي بـ "الشخصية الأمريكية"، وهي فكرة تفترض أن عظمة أمريكا تكمن في "شخصيتها الاستثنائية"، وهذا ما اطلق عليه السيناتور بـ: "غطرسة القوة", وبذلك أصبح أول وأشهر ناقد علني للسياسة الخارجية في بلاده، ولخص اسباب وأهداف معارضته لهذه الغطرسة في الآتي:
1. الجهل والخوف وانعدام الثقة بالعالم الخارجي.
2. الاعتقاد الخاطي بتفوق امريكا الثقافي والعسكري من خلال ثروتها وهيمنتها.
3. تفاخر امريكا بشيطنة الصينيين بسبب تصريحاتهم العدوانية، إلا أن حرب امريكا
في فيتنام اظهرت أنها أكثر شيطانية من الصينيين.
4. إهدارًا غير حكيم للدماء والأموال، ونموذجًا للهوس والخوف الأمريكي من الشيوعية.
5. ألحقت ضررًا بالغًا بالولايات المتحدة الامريكية وسياساتها الخارجية.
لقد كانت حرب امريكا في فيتنام صراعًا طويلًا ودامياً ومكلفًا، وكانت نقطة اشتعال رئيسية قادت الي خوض الحرب الباردة، التي سعت امريكا فيها إلى منع انتشار الشيوعية في جنوب شرق آسيا والشرق الاوسط.
وقد بلغت الحرب ذروته عام 1969 عندما اضطرت امريكا أرسل أكثر من 543 ألف جندي. ومن خسائر هذه الحرب, ما أصدرته فيتنام عام 1995، في تقديرها الرسمي لعدد القتلى خلال حرب ما يصل إلى مليوني مدني من كلا الجانبين، ونحو مليون ومئة ألف مقاتل من فيتنام الشمالية... وقدّر الجيش الأمريكي مقتل ما بين 200 ألف و250 ألف جندي فيتنامي جنوبي"(الموسوعة البريطانية, 2025). ومن جهة اخري، خسرت امريكا أكثر من 58 ألف جندي. وأنفقت ما يُقدر بـ 111 مليار دولار. وكان إجمالي الإنفاق العسكري على هذه الحرب، بما في ذلك النفقات الاعتيادية، والتي بلغت 828 مليار دولار وفقًا لتقرير هيئة الإذاعة البريطانية (BBC). وخلال هذه حرب ألقت امريكا ما يُقدر بـ 7.5 مليون طن من القنابل.
والعجيب انه في نهاية هذه الحرب الوحشية، وبعد 22 سنة, أضطر الرئيس ريتشارد نيكسون، انهي هذه الحرب، في 23 يناير 1973، دون تحقيق النصر النهائي المنشود! ونتج عن ذلك توحيد الفيتناميتان (الشمالية والجنوبية) تحت الراية الشيوعية في يوليو 1976، وخسرت امريكا الحرب نتيجة لغطرسة قادتها وجهلهم لطبيعة الصراع وعدم قدرتهم على التكيف معه.
الموجة الثانية للغطرسة الامريكية
في الموجة الثانية للغطرسة الامريكية شنت الرئاسة الامريكية حربين في الشرق الأوسط، كانت نتيجتهما كارثية على مصالح الولايات المتحدة ودول المنطقة ككل!
أولا: الحرب على أفغانستان
في 7 أكتوبر 2001، أعلن الرئيس جورج دبليو بوش (الابن) غزو أفغانستان، رافعاً شعار:
"معنا أو ضدنا"،
وكانت من أهم اهدافها المعلنة:
(أ) تفكيك تنظيم القاعدة الذي نفذ هجمات 11 من سبتمر بقيادة أسامة بن لادن،
(ب) حرمان الإسلاميين من أن يكون لهم قاعدة عمليات آمنة في أفغانستان،
(جـ) الإطاحة بحكومة طالبان الحاكمة في أفغانستان.
استمرت الحرب 20 عاماً (من 2001 إلى 2021)، ونتج عنها خسائر فادحة للولايات المتحدة وحلفائها، لعل من أهمها:
* أُلقيت امريكا أكثر من 24,000 قنبلة (منها 13,000 موجهة بدقة)،
* قامت بـ 55,150 طلعة جوية.
* قُدرت التكاليف المالية للحرب بأكثر من تريليوني دولار.
وقد اعتبر المؤرخون هذه الحرب من أطول الحروب في التاريخ المعاصر – فهي أطول من الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، وحرب فيتنام مجتمعة. والغريب أنه في نهاية هذه الحرب الطويلة والمكلفة أضطرت امريكا الانسحاب من افغانستان، وأعلنت حكومة طالبان (التي جاءت امريكا للاطاحة بها) انتصارها، وحكمت من جديد بالطريقة التي تريد أن تحكم بها البلاد.
ثانياً: الحرب على العراق
العجيب أن الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش (الابن) لم يكتف بغزو افغانستان في 7 أكتوبر 2001، بل قرر شن حرب ثانية على العراق يوم 20 مارس 2003!
لماذا؟
أهم المبررات الرئيسية (والمعلنة) لهذه الحرب:
(أ) إعاقة قُدرة حكومة صدام حسين على إنتاج أسلحة كيميائية وبيولوجية ونووية،
(ب) الاعتقاد بأن العراق تمتلك أسلحة دمار شامل، وبذلك تشكل تهديدًا للسلم الدولي
(جـ) الاعتقاد بأن العراق كانت على صلة بجماعات إرهابية مثل القاعدة.
والغريب أنه قد تبيّن لاحقًا أن كل هذه الادعاءات لا أساس لها من الصحة! وأن كل الاذلة كانت مُفبركة.
والأغرب أكثر، أنه خلال هذه الحرب ألقت امريكا 29,199 قنبلة (منها 19,040 قنبلة دقيقة التوجيه)، وفي هذا الصدد علقت صحيفة نيويورك تايمز أن كمية القنابل التي أُلقيت على العراق "تفوق ما استُخدم في الحرب العالمية الثانية بأكملها"(راجع: جون كيفنر، صحيفة نيويورك تايمز، 4 فبراير 1991، ص 1). وحسب تقدير وزارة الدفاع الأميركية للمبلغ الذي أنفقته الولايات المتحدة مباشرة على الحرب في العراق من السنة المالية 2003 حتى السنة المالية 2012, يقدر بـ728 مليار دولار" (NBC News, 2025). والاسوأ من ذلك، أن هذه الحرب أسفرت عن مقتل العديد من العراقيين تقدر بحوالي 35,000 عسكري وأكثر من 200,000 مدني عراقي (ملاحظة هامة هناك اختلافات كبيرة في تقديرات عدد القتلى في غزو العراق واحتلاله, وفي اعتقادي, ان السبب الرئيسي لذلك هو ان الانسان في العالم العربي لا قيمة له).
والغريب، ان النتيجة النهائية لهذه الغطرسة، هو خروج امريكا من العراق بعد ان خسرت مصداقيتها ومكانتها الحقيقية بين دول وشعوب العالم. واكتشف للجميع أن الأدعاءات والأسباب المُعلنة لشن هذه الحرب كانت كاذبة وأكثرها مُفبركة. وكل ذلك أجبر أمريكا ان تترك العراق بعد أن عثت فيها فسادا ودمارا، وزرعت فيها بدور الفوضي والفتنة القاتلة. والعجيب اكثر, إنها سلمت العراق لخصمها اللذوذ -إيران- على طبق من ذهب، ومنذ ذلك الحين هيمنت إيران على مقاليد السياسة العراقية دون أن تطلق "رصاصة واحدة" في هذه الحرب الكارتية!
في الجزء الثالث (والأخير) من هذا المقال،
سأحاول الحديث عن "الموجة الثالثة"
للغطرسة الامريكية بقيادة الرئيس دونالد ترامب،
وتأثيرها على المجتمع الدولي.
يتبع ...
والله المستعان.
المراجع:
Stevenson, Adlai E., III. 1984. "The Presidency,” Presidential Studies Quarterly 14: 18-21.
J. William Fulbright. The Arrogance of Power. January 23, 1967 https://www.amazon.com/Arrogance-Power-J-William-Fulbright/dp/0812992628
Womack, Brantly (2006). China and Vietnam. Cambridge University Press. p. 179. ISBN 978-0-521-61834-2.
Encyclopædia Britannica, 2025. https://www.britannica.com/question/How-many-people-died-in-the-Vietnam-War
NBC News, 2025. https://www.nbcnews.com/meet-the-press/meetthepressblog/iraq-war-numbers-rcna75762
No comments:
Post a Comment