"ضرورة حتمية لنهوض وإعمار الدول"
(2 من 2)
د. محمـد بالروين
في الجزء الأول من هذا المقال حاولت تسليط الضوء على
ماهية العقلانية وما هي أهم أنواعها.
أما في هذه الجزء الثاني (والأخير) سأحاول تسليط الضوء
على ماهية العقلانية العملية ومتطلباتها وخصائصها.
العقلانية العملية
هي علم وفن البحث والتفكير المنهجي والنقدي المبنّي
على الحقائق والأدلة بدلًا من العواطف والمشاعر والتحيزات،
هدفها الأساسي تحقيق أفضل النتائج واختيار أنسب الحلول.
بمعني آخر، هي طريقة واقعية يعتمد فيها الإنسان على العقل
والمنطق كمصدرين أساسيين للمعرفة والاستنتاج للوصول
لحقيقة الاشياء والافعال، وهذا لا يعني الاستغناء عن الوحي
أو التجربة، ولا الاستهانة بالحس أو السلوك، ولا أنها
الطريقة الوحيدة للوصول للحقيقة.
الفرضيات
لعل من أهم فرضيات العقلانية العملية الآتي:
1. العقل أساس التفكير
بمعني اعتبار العقل السلطة القادرة
على التفريق بين الصح والخطاء،
ومعرفة الحسن من القبيح،
واعتباره نقطة الارتكاز في الفهم
ومصدر رئيسي للوصول للحقيقة.
2. العقل ثابت
لا يتغير من شخص لآخر
بمعني اعتبار "الناس عقلاء .. الا الاستثناء"، وهنا اتفق مع الفيلسوف ديكارت (1596 – 1650) عندما قال "العقل هو أعدل قسمة بين الناس"، وبذلك فمكانة الانسان تتوقف على تفكيره، وفي هذا الصدد قال قولته المشهورة: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، وأكد ذلك الفيلسوف ليبتز (1646 – 1716) بقوله "ليس بين الموجودات الحية من تفاوت في الحياة إلا بدرجة تميز الإدراك" (للمزيد راجع الهلالي, 2011).
3. العقل محدود لا يدل
الا على محدود مثله
لقد برهن الفيلسوف كأنط على محدودية العقل وعدم استطاعته معرفة الموضوعات المتناقضة مع الطبيعة، وإحلال الإيمان محل المعرفة في أمور ميتافيزيقية مثل الله والروح (للمزيد راجع: الهلالي, 2011). هذا يعني أن العقل لا يتعارض مع الوحي، ولا يُعتبر المرجع الوحيد في تفسير كل شيء في الوجود، وبمعني آخر، إن العقل ضرورة للوصول للحقيقة ولكنه ليس الطريق الوحيد لاكتشافها.
4. المنطق أساس المعرفة
بمعني ضرورة رفض الفكر السائد الذي ينظر للمنطق نظرة تحريم واحتقار تحت شعار: "من تفلسف فقد تزندق". ويجب تبنّي أقوال العلماء والفقهاء المصلحين أمثال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي الذي أمن بأهمية المنطق ووضعة في مكانه المناسب في البحث عن الحقيقة، عندما قال: "من لا يحيط بالمنطق فلا ثقة بعلومه أصلا" (للمزيد راجع: خماط, 2007).
5. عدم تعقيد المُبسط
بمعني يجب التفريق بين الأمور والمشاكل والتحديات
وأخذ أيسرها وابسطها وأفيدها.
6. الجود بالموجود
بمعني يجب الانطلاق بما لدينا من ثروات والعمل
على استثمارها الاستثمار الأمثل.
7. أخذ أحسن ما عند الغير
على الا نترك أحسن ما عندنا
بمعني يجب أن ندرك أن التطور الإنساني عملية تراكمية،
وعليه يجب الانفتاح على الآخرين والسعي لطلب المعرفة
والعلم أينما كان، وأن نكون مستعدين لأخذ أحسن وأفيد
وأفضل ما عندهم على الا نترك أحسن ما عندنا.
8. الأصيل هو البديل
بمعني ضرورة الانطلاق من أن الاصالة
هي أهم الأهداف، والايمان أن الحياة
عملية "تحدي واستجابة"
ولكنها ليست بالضرورة معادلة صفرية.
9. التنوع من خلال الوحدة
بمعني ضرورة اعتبار الدولة لقاء للفرقاء وليست مجرد نادي اجتماعي، وعلى هؤلاء الفرقاء مهما كانت طبيعة أو نوع علاقاتهم مع بعض، أن يتحدوا ويتعاونوا بغض النظر عن اختلافاتهم إذا أرادوا النجاح والتقدم.
10. الجمع بين الاصالة والحداثة
بمعني ضرورة اعتبار الاصالة والحداثة وجهان لعملة واحدة، وانه لا فائدة من الحداثة بدون أصالة، ولا قيمة للأصالة بدون حداثة. ويمكن تحقيق ذلك بممارسة عملية الترشيد (Rationalization)، التي يتم بموجبها استبدال الأفكار والمعتقدات والقيم الناتجة عن العادات والأعراف والتقاليد والخرافات والسلوكيات السلبية بقوانين وقواعد وإجراءات واقعية وعلمية وتستند للعلم والمعرفة والمنطق والمقدرة والكفاءة.
آليات اتخاد القرار
لكي يتم تطبيق العقلانية العملية على أرض الواقع
لابد من استخدام منهجية علمية لجمع المعلومات
وتحليلها للوصول إلى نتائج ممكنة ومناسبة
ومفيدة للجميع،
ولعل من أهم الآليات الضرورية لاتخاذ
القرار المرغوب الآتي:
1. تعريف المشكلة
بمعني ضرورة تعريف المشكلة لأن تعريفها، كما يقولون، هو نصف الحل.
ويتم ذلك بالاتفاق على الأهداف والغايات. بمعني آخر، الذي لا يستطيع
تعريف مشكلته، لن يستطيع الوصول لهدفه، لأن كل الطرق تؤدي
به إلى المجهول!
2. جمع المعلومات
بمعني ضرورة جمع المعلومات المطلوبة والمناسبة لتحديد الخطط العلمية
والقابلة للتحليل والقياس والتنفيذ.
3. مقارنة الخيارات
بمعني ضرورة القيام بعملية المقارنة بين
الخيارات المختلفة وتقدير إيجابيات
وسلبيات كل منهما.
4. اختيار القرار
بمعني ضرورة اختيار القرار المناسب
للجميع، والقابل للتنفيذ بسهولة
وبأقل التكاليف وفي أسرع وقت ممكن.
5. تنفيذ القرار
بمعني ضرورة وضع خطة عمل لتنفيذ القرار، وتحويل أفكاره
إلى ممارسات ملموسة على أرض الواقع. الغريب أن اغلبية
القرارات التي تصدرها السلطات العربية وخصوصا في وطني،
لا يتم تنفيذها، وحتى التي يتم تنفيذها تتم بأساليب غير صحيحة.
وعليه أي قرار يصدر يجب أن يتضمن الأدوات العملية
والمنطقية لتنفيذه وإلا فلا قيمة له.
6. تقييم النتائج
بمعني ضرورة القيام بتقييم نتائج
القرارات التي تم تنفيذها
لأخذ الدروس والعبر.
الخلاصة
في الختام دعوني أذكر القاري الكريم بالتأكيد على الآتي:
أولا: إن من أهم شروط نهوض وإعمار الدول تبنّي العقلانية العملية.
ثانيا: إن تبنّي العقلانية العملية يساعد الدول في التخلص من المظاهر الارتجالية
والعبثية والعشوائية في اتخاذ القرارات.
ثالثا: إن تبنّي العقلانية العملية يجعل الدول تؤمن بضرورة التعليم، وحرية التعبير، وتشجيع التفكير النقدي،
وبالدور الايجابي للدين في المجتمع.
رابعاُ: إن تبنّي العقلانية العملية يجعل الدول قادرة على تشكيل فكر منطقي وعقلاني يتحكم في واقعها
ويساهم في حل مشاكلها.
وختاماً،
إن تبنّي العقلانية العملية يرتكز على شعار بسيط يقول:
"وريني"
بمعني "وريني يا باشا" -- إنك عقلاني، وإنك منطقي، وإنك عملي، وإنك أصيل، وإنك بسيط (أي متواضع)،
وإنك منفتح على الأخرين، وإنك تحترم التنوع، وفوق ذلك كله، إنك تؤمن بالمنهجية العلمية في اتخاذ القرار.
اخيرا، لا تنسوا يا أحباب،
ان هذا مجرد اجتهاد،
أعتقد انه الصواب،
فمن أتى باجتهاد أحسن منه قبلناه،
ومن اتي باجتهاد يختلف عنه احترمناه.
والله المستعان.
=======
المراجع
محمد الهلالي، العقلانية، الحوار المتمدن – العدد: 3541, 09 – 11 – 2011. http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=282804
سلام خماط، "الكشف الصوفي عند الغزالي ومبدأ العقلانية في فلسفة ارسطو،"
الحوار المتمدن، العدد: 1869, 29 – 03 – 2007.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=92488
عبد الله موسى، إشكالية العقلانية في الفكر العربي المعاصر دراسة في أعمال محمد عابد الجابري.
الانسانيات: ص 27 – 34.
https://doi.org/10.4000/insaniyat.9652
https://journals.openedition.org/insaniyat/9652?lang=ar
حسن الأسمري، العقلانية. (2020)، عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد بأبها. صيد الفوائد.
http://www.saaid.net/mktarat/almani/95.htm
عبد الله إبراهيم، العقلانية النقدية. موقع مؤمنون بلا حدود, 28 سبتمبر 2019.
https://www.mominoun.com/articles/A9-6805
Terry Nardin, Rationality in politics and its limits. Pages 177-190, Published online: 13 Apr 2015 https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/23269995.2015.1018693
علي رسول حسن الربيعي، نقد العقلانية الكلاسيكية: تعدد العقلانيات نتاج حركة التاريخ. موقع الجديد، الأحد 2018/07/01,
https://aljadeedmagazine.com/
No comments:
Post a Comment