المُتعصب الوظيفي
"من أخطر الآفات القاتلة في السياسة"
د. محمد بالروين
المُتعصب الوظيفي (Fanatic Functional )، هو شخص ذو حماسة مفرطة، وغير معقولة، ولا يقبل النقد تجاه معتقده أو قضيته أو فكره، ويمتلك مهارات تمكنه من القيام بما يُطلب منه، وقابل للعمل (بثمن بخس أو لمجرد وعود وهمية) لتحقيق أهداف عدو عدوه.
صيفات المُتعصب الوظيفي
من أهم الصيفات (أو الميزات) التي تجعل المرء مُتعصبًا وظيفياً:
1. التفاني في شيء أو فكرة او قضية ما.
2. الحماسة لتحقيق الهدف والاندفاع غير العقلاني نحوه.
3. الاصرار على إنجاز الهدف مهمة كلف الثمن.
4. الرفض لتغيير الرأي وعدم قبول وجهات النظر المخالفة.
5. الادعاء بأنه يملك الحقيقة كاملة.
6. القَابلية للتوظيف (أو التجنيد) من قبل الغير لتحقيق الهدف.
7. العداء المطلق لكل من يعتقد أنه يشكل له خطر.
8. الفجور في الخصومة بالكذب والافتراء والغدر والشتم والظلم.
9. التكبر بالتعالي على الآخرين واحتقارهم.
10. التصديق بأن عدو عدوه.. صديقه.
تصنيف المُتعصب الوظيفي
للمُتعصب الوظيفي أصناف عديدة لا يمكن حصرها هنا، ولكن يمكن النظر له من خلال تصنيفين رئيسيين هما: العدد والنوع.
أولاً: التصنيف العددي
يمكن تقسيم المُتعصب الوظيفي عددياً إلى:
(1) فردي – والمثال على لك هو البغدادي والزرقاوي في العراق، ومحمد الجولاني (أحمد الشرع) في سوريا، والأمير فيصل بن مساعد، الذي قتل الملك فيصل بن عبد العزيز (رحمه الله) في 25 مارس 1975م في السعودية، والشيخ حكمت الهجري، الزعيم الروحي لطائفة الدروز، الذي يدعو لإقليم مُنفصل في محافظة السويداء في سوريا. والكثير من الشخصيات المتطرفة والمدعومة من المخابرات المحلية والدولية للقيام بمهام محددة.
(2) جماعي - والمثال على ذلك ما قامت به المخابرات الأجنبية من إعداد ودعم جماعات دينية وقومية وجهوية متطرفة لأحداث "فوضى" وإشعال "حروب قدًّرة" في العديد من الدول. ومن هذه الجماعات على سبيل المثال، "داعش" و"القاعدة" و"المداخلة" و"جماعة بوكو حرام" في نيجيريا و"حركة الشباب" في الصومال و"الدعم السريع" في السودان" و"قسد" في سوريا".
ثانيا: التصنيف النوعي
يمكن تقسيم المُتعصب الوظيفي نوعياً إلى – قومي أو ديني أو فكري أو طائفي أو قبلي أو جهوي. ولتوضيح ذلك دعونا نستدل ببعض الأمثلة:
(1) توظيف المُتعصب القومي: والمثال على ذلك هو توظيف المخابرات الإنجليزية، في بداية القرن العشرين، لـ "الشريف حسين" واقناعه بالتحالف مع الجيش الانجليزي ضد الحكم العثماني لطرده من الجزيرة العربية والشام، تحت شعار "تخليص العرب من الاستعمار العثماني" و"تأسيس الوحدة العربية بقيادة الشريف حسين". وبذلك لعب الشريف حسين دوراً محورياً في قيادة ما أطلق عليه في التاريخ بـ "الثورة العربية الكبرى" عام 1916 التي انطلقت من مكة، واستطاع الانجليز بذلك هزيمة الاتراك وطردهم من الجزيرة العربية والشام وكانت فلسطين ضمن تلك الأراضي.
وما أن حقق الانجليز هدفهم حتى قاموا (بالاشتراك مع الفرنسيين) بتقسيم العرب إلى دويلات صغيرة "على الساحل" ودويلات كبيرة "في الداخل"! ليس هذا فحسب، بل قاموا بتسليم فلسطين لليهود تحت شعار:
"أرض بدون شعب، لشعب بدون أرض"!
والاسوأ من ذلك كله أن الشريف حسين لم يحصل على الدولة العربية الموحدة التي وعدته بها بريطانيا، بل قامت بتهميشه ونفيه إلى قبرص عام 1926.
(2) توظيف المُتعصب الديني: والمثال على ذلك هو توظيف المخابرات الامريكية (سي. آى. أي), في بداية ثمانينات القرن الماضي, واستغلالها لحماسة الشباب المسلم ودعمهم للوقوف ضد غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، فقد طلبت امريكا من السعودية ومصر تشجيع كل من يرغب في التطوع للجهاد في أفغانستان تحت شعار "الجهاد ضد الالحاد", وقامت المخابرات الامريكية بدعمهم بالأموال والاسلحة والمعلومات، واطلق على هؤلاء الشباب المُتحمس أسم "المجاهدين". واستمرت الحربُ عَشر سنوات حتى عام 1989م عند انسحاب الاتحاد السوفيتي وانتصار المُجاهدين.
ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي شعرت أمريكا أن وظيفة هؤلاء المجاهدين قد انتهت، وأنهم قد يشكلوا خطر على مصالحها في المنطقة، فأمرت الدول التي أتى منها هؤلاء أن يُطلُبَ مِنهم العودة إلى أوطانهم.
ولكن ماذا حدث؟
رفض المجاهدين الرجوع!
ونتج عن هذا الرفض!
قيام أمريكا بإعادة تصنيفهم:
من "مجاهدين" إلى "ارهابين".
(3) توظيف المُتعصب الطائفي: والمثال على ذلك هو توظيف المُتعصب الطائفي في لبنان من قبل القوي الاقليمية والدولية لخدمة مصالحها والاصرار على أن تبقي لبنان دولة "لا غالب ولا مغلوب". ومن الغرائب في هذا الشأن، أنه عندما رفعت جماعة "حزب الله" شعار "المقاومة وتحرير" للأراضي اللبنانية المحتلة، رفعت جماعة "الكتائب" اللبنانية شعار: "قوة لبنان في ضعفها". ونتج عن هذا التعصب الطائفي أن أصبحت كل طائفة في لبنان شبه مستقلة عن الطوائف الأخرى، وتشكل "دولة داخل دولة". كل ذلك قاد كل طائفة للاستعانة والاستقواء بقوى خارجية لحماية نفسها من شركائها في الوطن.
(4) توظيف المُتعصب القبلي (أو العشائري): والمثال على ذلك هو توظيف التعصب القبلي في العراق من قبل القوي الامريكية والدول العربية المجاورة لها. بدأت مرحلة زرع "آفة التعصب" في العراق عندما اتخذ الحاكم المدني الأميركي للعراق بول بريمر في 23 مايو 2003 قراره بحل الجيش العراقي، والذي قاد إلى تسريح حوالي 350 ألف فرد دون إعطائهم أي حقوق ولا مرتبات ليعيلوا بها أسرهم. هذا القرار الذي وصفه كولن باول، وزير خارجية الولايات المتحدة الاميركية آنذاك بأنه "قرار كارثي"، وبالرغم من أن واشنطن قد وعدت كبار ضباط الجيش العراقي، عبر بياناتها ومنشوراتها التي أُلقيت على معسكراتهم قبل الغزو باحتفاظهم بمناصبهم"(راجع: كمال الجفال وزينه مصطفي, 2014).
هذا الحدث كان له الأثر الأكبر في تشكيل الجماعات السنية المسلحة، وشجع عدد كبير من المقاتلين العرب للقدوم إلى العراق للمساهمة في مواجهة الاحتلال. ونتيجة لذلك تكاثرت الجماعات السنية المسلحة وقاد ذلك لتدفق "الدعم المادي واللوجستي الذي انهمر عليها من دول الجوار وبعض الدول الإقليمية، وقُدّر عدد تلك الجماعات بما يفوق الخمسين (50) تنظيماً مسلحاً"(راجع: كمال الجفال وزينه مصطفي, 2014).
شنت هذه الجماعات المسلحة عمليات عديدة ضد قوات الاحتلال والقوات الحكومية العراقية مما قاد إلى ارتفاع في خسائر القوات الأميركية. كل ذلك دفع بالقائد العسكري الاميركي في العراق ديفيد بترايوس إلى محاولة تصحيح أخطاء الإدارة الأميركية، فعمد إلى استمالة رؤساء العشائر عبر مدهم بالمال والسلاح لتشكيل ما عُرف بـ "مجالس الصحوات" لمواجهة الجماعات المسلحة، والتي سميت في الاعلام الامريكي حينذاك بـ: "صحوات بترايوس", وخلال فترة وجيزة "تم تجنيد ما يزيد على 100.000 مقاتل, قامت أميركا بدعم وتمويل هذه الصحوات بمبلغ يقدر بـ 200 مليون دولار شهرياً. وتمكنت الصحوات بالفعل من إخماد نشاط الجماعات المسلحة، ولكن بمجرد أن قضت الصحوات على الجماعات المسلحة اعتبر الجيش الامريكي أن مهمتها قد انتهت، وطلبوا من رئيس مجلس الوزراء السابق نوري المالكي نزع سلاحها وقطع رواتب مقاتليها وتم اعتقال الكثير منهم،"(راجع: كمال الجفال وزينه مصطفي, 2014).
الخلاصة
مما تقدم يمكن استخلاص الآتي:
أولا: "نعم للمناصرة" على أن يكون معيارها:
"التمسك بالحق والرجوع له عند الخطأ".
والتذكير بقول رسولنا (ﷺ):
"انصر أَخاك ظالما أَو مظلوما،
فقال رجل:
يا رسول الله،
أنصره إذا كان مظلوما،
أفرأيت إذا كان ظالما،
كيف أنصره؟
قال: تحجره أو تمنعه من الظلم،
فإن ذلك نصره"(رواه البخاري واحمد والترمذي).
ثانياً: "نعم للانتماء" القبلي أو العشائري أو العرقي أو الجهوي أو الوطني أو الفكري، أو الحزبي بشرط الا يقود الى التعصب، فكل هذه الانتماءات مرغوبة ومطلوبة لتحقيق التنوع الاجتماعية المناسب وضرورة من ضروريات السياسة الحكيمة، وهي تصنيفات اجتماعية تهدف لتحقيق التعارف والتعاون والتكامل بين ابناء الوطن الواحد، وسنة من سنن الحياة كما يذكرنا الله في كتابه الحكيم عندما يقول في الآية 13 من سورة الحجرات:
﴿يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل
لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير﴾
أّذاً علينا أن "ننتمي.. بشرط الا نتعصب"، وأن نتذكر قول رسولنا (ﷺ):
"ليس منا من دعا إِلى عصبية،
وليس منا من قاتل على عصبية،
وليس منا من مات على عصبية"
(صحيح مسلم).
"ثالثاً" وختاماً "لآ للعصبية"، بمعني لا للوقوف مع الأهل أو الاصدقاء أو القبيلة أو القوم ضد من نازعهم أو قاتلهم، عندما يكونوا على باطل. وذلك لأن رسولنا (ﷺ) أمرنا أن نترك العصبية ونبتعد عنها عندما قال:
"دعوها فإنها منتنة".
وفي حديث آخر قال:
"لا فضل لعربي على عجمي،
ولا لعجمي على عربي،
ولا لأبيض على أسود،
ولا لأسود على أبيض،
إلا بالتقوى،
الناس من آدم، وآدم من تراب"
(رواه أحمد)
مما ذُكر أعلاه، يجب اعتبار "العصبية" - بكل أشكالها - أفة اجتماعية قبيحة وخبيثة، ويجب تصنيف "المُتعصب الوظيفي" كأخطر الآفات الاجتماعية التي تواجه الدول الحديثة. وعليه يجب التعامل معه والتخلص منه بكل الوسائل المشروعة والمتاحة وفي مقدمتها التربية والعلم والحكمة، ويجب أن يكون الهدف تحقيق دولة القانون على أسس - العدالة الاجتماعية وحق الاختيار والتعددية السياسية. وأن لم يتحقق ذلك، فالبديل الحتمي هو ديمومة الاضطرابات والصراعات المُدمرة للمجتمع والتفكك وانهيار الدولة.
أخيرا، لا تنسوا يا أحباب، إن هذا مجرد رأي،
أعتقد أنه صواب،
فمن أتي برأي أحسن منه قبلناه،
ومن أتي برأي يختلف عنه احترمناه.
والله المسـتعـان
=====
مراجع:
عبدالله العليان, لماذا اختار ابن خلدون مفهوم العصبية؟ موقع عُمان اليومي , 19 أكتوبر 2022.
https://www.omandaily.om/%D8%A3%D9%81%D9%83%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/na/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%AE%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%86-%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B5%D8%A8%D9%8A%D8%A9
محمد شقير, العصبية: رؤية إسلامية , موقع الاخبار , الثلاثاء 6 آذار 2007. https://al-akhbar.com/Opinion/197145
عمر الجفال وزينه مصطفي. العودة إلى «الصحوات» في العراق تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، الذي اختزل في ما بعد بـ«الدولة الإسلامية»
2014-09-17 https://assafirarabi.com/ar/2374/2014/09/17/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82/
شبكة الساعة, في ذكرى التأسيس .. مجالس الصحوات العراقية بين مقارعة الإرهاب وتهميش الحكومات.
024-05-02
https://alssaa.com/post/show/23873-%D9%81%D9%8A-%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A3%D8%B3%D9%8A%D8%B3-%D9%85%D8%AC%D8%A7%D9%84%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%B1%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8-%D9%88%D8%AA%D9%87%D9%85%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%AA
صادق الطائي, العراق: علي حاتم السليمان… (عودة الابن الضال). 24أبريل – 2022
https://www.alquds.co.uk/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%B9%D9%84%D9%8A-%D8%AD%D8%A7%D8%AA%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%A7/
No comments:
Post a Comment