Sunday, July 27, 2025

آفـة الترويض السياسي

آفـة الترويض السياسي

 

د. محمـد بالروين

 

في مقالات سابقة كتبت علي "آفات قاتلة" لأي عمل سياسي لعل من أهمها:  

"آفة غياب الاستماع", "آفة الاسهال الفكري", "آفة الشخصنة",

"آفة الظاهرة القردية",  "آفة المحصلة الصفرية", "آفة نشوة السكرة السياسية",

"آفة الاغتراب السياسي", و"آفة الاستخفاف بالآخر".

 

فى تصورى ان كل ناشط (او عامل) فى المجال السياسى سيكون عرضة

للاصابه – علي الاقل - بواحدة من هذه الآفات, ولكي ينجح ويستطيع

تحقيق أهدافة عليه ان يتعرف عليها ويحاول تلافيها.

 

في هذا المقال سأتحدث علي آفة سياسية آخري, ضارة ومُعدية وقاتلةً. أخدت تنتشر بسرعة, في السنوات الاخيرة, واصبح من الواجب مواجهتها والسعي للتخلص منها, هذه الآفة هي "الترويض السياسي", وهي وسيلة ناعمة (وفي بعض الاحيان خشنة) يستخدمها حاكم او سياسي ما للسيطرة علي من حوله من الافراد وتسخيرهم لخدمته وتحقيق أهدافه الأنانية. بمعني أخر,  هي أداة لإخضاع شخص (أو شخوص) وتهيئته لعمل خاص, وذلك بتغيير (أو ضبط) سلوكه اما بالثواب أو بالعقاب, وجعله مطيعا وخاضعاً لكل ما يُطلب منه.

 

الاهداف

لعملية الترويض السياسي أهداف عديدة لعل من اهمها:

(1) إلإخضاع, أي إخضاع الشخص المُستهدَف لرغبات المُروض,

(2) الإستمرار أي إستمرار خضوعِ الشخص المُستهدَف لاوامر المُروض,

(3) التعود أي جعل الشخص المُستهدَف يتعود العيش في المهانة والذل وأرضاء سيده,

(4) الاستقرار, أي جعل الشخص المُستهدَف يشعر بان الاستقرار, في المحيط الذي هو فيه, أهم من العدالة والكرامة والحرية أو اي شيء آخر.

 

الركائز

لكي تنجح عملية الترويض السياسي مع اي شخص او في اي دولة او مجتمع لابد ان تعتمد - علي الأقل - علي ركائز ضرورية ثلاث هي:

 أولاً: القوة

 تعتبر "القوة" اهم ركيزة ضرورية لترويض شخص (أو جماعة أو دولة أو شعب) ما وجعله "مطيعا" و"خاضعاً" و"مُستسلماً". فعلي سبيل المثال, القوة هي التي أوجدت ما عُرف في التاريخ بـ "مؤسسة العبودية", لان مجموعة من الأفراد (في مكان ما) أعتقدوا انهم "سادة قومهم", فقاموا بأمتلاك عناصر القوة المطلوبة لترويض من حولهم وإجبارهم علي ان يكونوا عبيد لهم!

 

ولكن علي المرء ان يعي ان القوة وحدها (وخصوصا الخشنة منها) لا تحقق الاهداف المنشودة, ولعل خير مثال علي ذلك ما عُرف – في السنوات الاخيرة - بــ: "الحرب علي الارهاب", فبالرغم من القوة الخشنة والمتطورة التي تمتلكها امريكا والدول الاوروبي, الا انهم فشلوا ولم يستطيعوا تحقيق هدفهم النهائي والمرغوب, الا وهو النصر علي الارهاب! وفي هذا الصدد يقول جوناثان إيال، مدير معهد الخدمات الملكية البريطانية (وهو مركز أبحاث عسكري بريطاني): "إن المفهوم الكبير للحرب [على الإرهاب] لم ينجح, وإن هذه الحرب لم تكن حاسمة من الناحية العسكرية البحثة, بل كانت عملية عشوائية إلى حد ما" (توم ريجن, 2004). لذ  لكي تتحقق اهداف الترويض المطلوبة والمرغوب, لابد ان تقترن "القوة"       بعوامل ضرورية آخري, لعل من أهمها الخوف.

 

ثانياً: الخوف

أما الركيزة الثانية والضرورية لترويض شخص (أو جماعة أو دولة أو شعب) ما وجعله "مطيعا" و"خاضعاً" و"مُستسلماً" هي "الخوف", أذ يعتبر من اهم الوسائل التي تستخدمها الانظمة (وخصوصا الدكتاتورية) للسيطرة علي شعوبها. ولعلني هنا اتفق مع الكاتب الامريكي هوارد فيليبس (1890 –1937)، المتخصص في الخيال الغريب وخيال الرعب, عندما قال:

 

"الخوف أقدم وأقوى عاطفة لدى البشر".

 

وعليه يمكن اعتبار الخوف اكبر التحديات التي تواجه الانسان في حياته, ولهذا نجد الرئيس الامريكي فرانكلن ذي روزفلت (1882- 1945) في خطاب تنصيبه الأول، في 4 مارس 1933, حث شعبه علي المزيد من العمل دون تردد قائلاً لهم:

 

"ان الشيء الوحيد الذي يجب أن نخافه هو الخوف نفسه".

 

ومن اشهر الامثلة علي استخدم الخوف كسلاح’:

(1) كان الخوف أهم سلاح فيما عُرف بـ "جمهوريات الخوف" التي أسسها الانقلابيين في دول العالم الثالث (وخصوصا الدول العربية) خلال النصف الاخير من القرن العشرين, حيث حكم هؤلاء الانقلابيين شعوبهم بالحديد والنار, وتعاملوا مع كل من حاول معارضتهم أما بالقتل أو بالسجن أو بالتشريد.

 

(2) استخدام الخوف كسلاح لم يقتصر علي الدول الدكتاتورية فقط, بل أستخدمته بعض الدول الديمقراطية ايضا, فعلي سبيل المثال, ما عُرف في خمسينيات القرن الماضي بــ ’المكارثية’ لخير ذليل علي ذلك, وهي سياسة تبنتها الولايات المتحدة لمواجهة ما عُرف بـ "المد الشيوعي أو الخوف الأحمر", وهي حملة قادها السيناتور جوزيف آر. مكارثي, من ولاية ويسكونسن, حيث ادعى أنه يمتلك قائمة بأسماء 205 شيوعيين يعملون في وزارة الخارجية الأميركية. ومنذ تلك اللحظة أصبح السيناتور مكارثي محارباً شرساً ضد الشيوعية. ولانه كان رئيسًا للجنة الفرعية الدائمة للتحقيقات بمجلس الشيوخ، فقد أجرى جلسات استماع عديدة بشأن التخريب الشيوعي في أمريكا, وحقق في التسلل الشيوعي المزعوم للقوات المسلحة" (روث روزن, 2003).

 

وكنتيجة لهذه الحملة علي الشيوعية, استطاعت السلطات الفيدرالية تخويف الشعب الامريكي وترويضه تحت دريعة حمايته من المد الماركسي اللاحادي الذي يهدد وجود امريكا, ونتج عن تلك الحملة اتخاد العديد من السياسات الفيدرالية لعل من اهمها:

(أ) التاكيد علي ان امريكا دولة مُتدينة تؤمن بالله وتثق به, ولأول مرة في تاريخ امريكا استُخدمت عبارة ’ثيقتنا في الله’ (In God We Trust) على العملات الورقية عام 1957,  كرد فعل انفعالي على الخوف الأحمر الذي أثاره السياسيين المحافظين في تلك الفترة لتمييز الامريكيين عن "الشيوعيين الملحدين".

(ب) التاكيد علي ان امريكا دولة راسمالية وان ’السوق الحر’ هو العمود الفقري للأقتصاد الامريكي, وبالتالي لابد من رفض ومحاربة الانظمة الاشتراكية او اي اقتصادي آخر.  

مما تقدم يمكن إستخلاص النصائح الآتية, لكل من يرغب في ممارسة السياسة:

(1)         أن يدرك ان الخوف عامل ضروري ومهم في حياة الانسان.

 

(2)         أن يعي ان الخائف لا ينفع معه المنطق.

 

(3)         من الخطاء افتراض "أن الانسان إذا عرف كل الحقائق سيتصرف وفقاً لذلك".

 

(4)         الإيمان بأن الخوف, في اغلب الاحيان, أهم واكثر ثاثيرا من القوة!!! وقد عبر عن هذه الحقيقة الصحفي ميك هيوم رئيس تحرير مجلة سبايكد, في مقال له بعنوان: "الخوف والانهزامية يصيبان الغرب." قال فيه: "إن الخوف والانهزامية يصيبان الغرب ورغم تفوقهما العسكري الساحق في أفغانستان، وآلاتهما المتطورة لإدارة وسائل الإعلام، فإن الحكومتين الأميركية والبريطانية تشعران بقلق بالغ إزاء خسارة الحرب الدعائية"( ميك هيوم,2001).

 

(5)         معرفة ان الخوف يزداد قوة عندما يقترن بالجهل. فمثلاً, انتشار مناخ الخوف الذي روجت له إدارة الرئيس جورج بوش (الابن) في أعقاب هجمات 11 سبتمبر2001، كان له تأثير واسع النطاق علي العرب والمسلمين وخصوصا المقيمين بأمريكا, وذلك لان الرئيس بوش نجح في ربط قضية مكافحة الإرهاب بالحريات العامة وأعتبرها معركة من أجل الحريات والحقوق، وبذلك نجحت حملته في اقناع الاغلبية الساحقة من الامريكان, فقد "أظهرت استطلاع الرأي التي أجرتها مؤسسة "قالب بول" أن أربعة من كل خمسة أميركيين على استعداد للتخلي عن بعض حرياتهم في مقابل المزيد من الأمن."( دينيس جيت, 2002).

ثالثاً: التوريط                                                                                                                                             أما الركيزة الثالثة والضرورية لترويض شخص (أو جماعة أو دولة أو شعب) ما وتحويله    الي شخص "مطيعا" و"خاضعاً" و"مُستسلماً" هي "التوريط"! أي عملية أشراك او إقحام شخص ما في مشروع فساد, او ممارسة عمل غير اخلاقي, أو تجنيده للقيام باعمال غير قانونية, او تشجيعه علي ارتكاب جرائم معينة.

 

ولعل خير مثال علي ذلك هو ما قامت به إدارة الرئيس الامريكي جورج بوش (الابن) في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 , وذلك بتوريط الشعب الامريكي خاصة, وشعوب العالم عامة, في معركة عالمية وعدو غير منظور(الارهاب) ولا يوجد اجماع علي من هو هذا العدو؟! وما هي درجة الخطر التي تمثله؟! وكنتيجة لهذه الهجمات أعلنت إدارة بوش ضرورة غزو أفغانستان, للدفاع عن النفس, وطلب من دول وشعوب العالم الوقوف مع امريكا في هذه الحرب, ورفع شعار "معنا أو ضدنا". ليس هذا فقط , بل قام بشن حرب ثانية علي العراق,...

لماذا؟!

لأن صدام حسين, كما يقول بوش,

(قد) يمتلك أسلحة دمار شامل،

و(قد) يستخدمها ضد عدو غير محدد في وقت ما, في المستقبل!

ولأننا (لسنا) متأكدين من ذلك،

فلابد أن نشن حرباً استباقية ضدها" (رووث روزن, 2003).

 

بهذه الحروب العبثية ’ورط’ الرئيس بوش امريكا والعالم في حروب لا نهاية لها. وفي هذا الصدد يقول البروفسور بروفيدنس، بجامعة براون, رود آيلاند, بالولايات المتحدة الامريكية, وفقًا لتقرير صادر عن مشروع تكاليف الحرب في جامعة براون بانه "بعد ما يقرب من 20 عامًا من غزو الولايات المتحدة لأفغانستان، بلغت تكلفة حربها العالمية على الإرهاب:

8 تريليون دولار, و900 ألف حالة وفاة.

اما الاستادة كاثرين لوتز(Catherine Lutz)، المديرة المشاركة لبرنامج تكاليف الحرب وأستاذة الشؤون الدولية والعامة في جامعة براون، فتقول ان "الحرب طويلة ومعقدة ومروعة وغير ناجحة, ولا تزال مستمرة في أكثر من 80 دولة"( جل كيمبال, 2021).

ليس هذا فحسب بل نتج عن "موجات التخويف و حملات التوريط" التي شنتها أمريكا والدول الاوربية علي "الارهاب", اصبح الإسلام كدين يمثل – في نظرهم - ظاهرة "مُخيفة" و"خطيرةً" ولابد من محاربتها! واصبح الشباب المسلم (وخصوصا الملتزم بالاسلام) متهم ولا يثق فيه حتي يثبت العكس!!!

 

مراحل آفة الترويض السياسي

انتقلت "آفة الترويض" الي عالم السياسية عندما بداء الصراع علي السلطة! مند ذلك الحين انتشرت هذه الآفة كأنتشار النار في الهشيم, وازدادت خطورتها حديثاً نتيجة للتمدن وإنتشار وسائل الاتصال والاعلام والتكنولوجيا. ولعل الشكل الاتي يوضح أهم المراحل الي مرت بها هذه الظاهرة عبر التاريخ:

 

أولا: ترويض الحيوانات

الترويض, بمفهومه العام, أداة قديمة أستخدمها الانسان لأول مرة, علي الحيوانات للسيطرة علي أفعالها وتصرفاتها المتوحشة, لتصبح "مُدجنة" وقابلة لإخد أوامره ومستعدة لعمل ما يُطلب منها, وكانت الكلاب أول الحيوانات التي تم ترويضها, وقد نجح الانسان في إخضاع أغلب الحيوانات وتهيئتها لتحقيق أعماله الانانية. ولهذا   تجد جُل الحيونات اليوم, بما فيها الاسود, في السيرك, الا الذئب! ويعتقد العلماء     ان الذئب هو الحيوان الوحيد الذي لا يمكن ترويضه.

 

ثانياً: ترويض الافراد

بعد فترة من الزمن أستخدم الانسان ادوات الترويض, ليس فقط مع الحيونات, بل مع أخيه الانسان, مما قاد في حالات كثيرة لعبوديته, واصبح الترويض حديثاً, من اهم الادوات السياسية التي تستخدمها الدول الاستعمارية للسيطرة علي مستعمراتها, ويتم ذلك بتدريب وتأهيل مجموعة من الافراد ليكونوا زعماء وقادة في بلدانهم.

 

وعليه فقد اصبح من الضروري اليوم, لكي ينجح سياسي ما في تحقيق أهدافه, ان يبحث عن ادوات الترويض المناسبة له. والحقيقة ان جُّل الدكتاتوريين الذين قاموا بأنقلابات في دول العالم العربي, مند أربعينيات القرن الماضي, قد تم تجنيدهم وترويضهم لتحقيق أهداف مُروضيهم. ولكي يحقق هؤلاء الدكتاتوريين أهدافهم قاموا بترويض أفراد آخرين لإخضاع واذلال شعوبهم. فعلي سبيل المثال, كانت المجموعة الاولي من الافراد, التي مكنت القدافي من الاستمرار في حكم ليبيا, لا تزيد عن 130 شخصاً, وكان عدد الرفاق البعثيين الذين قاموا بالسيطرة علي الحكم في سوريا والعراق, حسب تقديرات احد القادة البعثيين, لا تزيد عن 200 شخصا!

 

 

ترويض.. السيد أحمد الشرع نموذجاً                                                                    لعل خير مثال علي الترويض السياسي الناجح للافراد هو عملية تحول السيد احمد الشرع, الرئيس المؤقت للدولة السورية, وانتقاله من وضع "رادكالي تكفيري ومتطرف" في عام 2003, الي وضع يقدم فيه نفسه كرجل دولة "واقعي متسامح وبرغماتي", وانه قائد      سياسي يؤمن بـ "دولة المواطنة وبحق الجميع في المشاركة السياسية".

 

 

فماذا حدث؟!

·     في عام 2003 , ترك الشرع دراسته الجامعية وألتحق بتنظيم "سرايا المجاهدين في العراق",   وبايع أبو مصعب الزرقاوي لمحاربة القوات الامريكية, واطلق علي نفسه أسم ’أبو محمد الجولاني’...،

 

·     وفي عام 2004 , تم سجنه من قبل القوات الأميركية, ومكت في السجن الي 2010, وبعد خروجه ألتحق بـ ’تنظيم داعش’ في العراق (راجع: سميسم 2004)...,

 

·     وفي عام 2011 , رجع الي بلده سوريا كـ "ممثل لزعيم داعش" أبو بكر البغدادي، وشارك        في تشكيل ما سمي بـ ’جبهة النصرة’ التي قامت بإقصاء كل الفصائل المعارضة الآخري....

 

·     في عام 2013 , انشق عن أبو بكر البغدادي، وشكل تنظيماً مستقلاً عن القاعدة اطلاقي عليه  أسم "دولة العراق الإسلامية"...,

 

·     وفي نفس السنة 2013 , صنفته وزارة الخارجية الأميركية ’إرهابياً عالمياً’، ورصدت مكافأة قدرها عشرة (10) ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى إلقاء القبض عليه...,

 

·     وفي نهاية عام 2013, أجرى الجولاني أول مقابلة إعلامية له، في برنامج ’بلا حدود’, للأستاد احمد منصور علي قناة الجزيرة, وأعلن في هذا اللقاء أهداف جبهته,

 

وكان من أهمها:

(أ‌)  ان يتم حكم سوريا وفقا للشريعة الإسلامية.

 

(ب‌)      أعتبار العلويين طائفة ’خارجة عن الاسلام.  

 

(جـ)  يجب علي النصاري السوريين دفع الجزية للدولة الاسلامية.

 

)د)   المعركة مع ’حزب الله’ قادمة لا محالة, وان زواله مرتبط بزوال بشار الاسد.

 

(هـ)   ليس لدينا أي ارتباط مع أي جهة خارجية.

 

·     وفي عام 2016 , فك ارتباط جبهة النصرة بتنظيم القاعدة وغير اسمها إلى "جبهة فتح الشام".

 

·     وفي 2017 , قام بإدماج تنظيم "جبهة فتح الشام" مع فصائل أخرى من المعارضة المسلحة.

 

·     وفي عام 2020, شكل ’هيئة تحرير الشام’, التي  تعرضت للعديد من الهزائم والانكسارات، مما دفعه لتغيير أفكاره وسلوكيته ومواقفه.

وبعد ان خرج عام 2003, علي الأعلام, وظهره للكاميرا وواضعاً غطاء أسود يلف ما ظهر من رأسه ووجهه, ظهر عام 2024 في مقابلة مع برنامج "فرانت لاين"، على محطة الشبكة التلفزيونية الأميركية (بي.بي.إس), مواجهاً الكاميرا ويرتدي قميصاً وسترة, وابدي استعداده لمحاربة ‏التنظيمات المتطرفة وإقصائها ‏أو تصفيتها, وأعلن انه علي أستعداد للوصول إلى صيغ تعاون مشترك مع المجتمع الدولي,    واعلن ايضا إن جماعته لم تشكل أبدا تهديدا للغرب, وان سوريا المستقبلية لن تعترف بالطائفية؟!(للمزيد راجع: سميسم 2024, درويش 2024, الحرة 2024).

والسؤال المُحير هنا:                                                                                          ما الذي حدث للسيد الشرع ليتحول من:                                                                        "راديكالي متطرف" الي "حمامة سلام ورجل دولة ديمقراطي"؟!

الاجابة باختصار تكمن في مقدرة وذهاء المخابرات التركية والقطرية, في الاتصال بالسيد الشرع وجماعته, مند 2020, وإقناعهم بانهم, إذا أردوا الانتصار علي الاسد, يجب ان يغيروا مسارهم وأفكارهم, وبذلك تم ترويض السيد الشرع وجماعته بنجاح, وكنتيجة لذلك تحول الشرع من "إرهابي متطرف" الي "رجل دولة", ومن شخص يؤمن بالانتقام الي رجل يدعو الي التسامح والسلام.

 

 

 

ثالثاً: ترويض الجماعات

مند منتصف القرن الماضي, انتقل الترويض السياسي من الافراد الي الجماعات, اذ أخدت أمريكا والدولة الاوربية في تأسيس ودعم وتمويل العديد من الجماعات في العالم, وخصوصا في الدول العربية والاسلامية. فعلي سبيل المثال, أسست مخابرات هذه الدول جماعات عديد بـ "واجهات وشعارات" اثنية ودينية وسياسية, ولكن في حقيقتها أنشئت لزرع الفرقة وترويض الشباب لخدمة أهدافها الخاصة, وتحقيق هدفها الحقيقي "الهيمنة من خلال التفرقة."

 

أما علي المستوي الليبي فقد نجح القدافي, خلال فترة حكمه, في ترويض العديد من الجماعات القبلية والجهوية والعرقية والدينية, مما قاد الي تمكينه في الحكم وايطالة مدة طغيانه واستبداده.

 

رابعاً: ترويض المؤسسات

هنا يمكن القول, ان اول ظاهرة مؤسساتية استعمارية حديثة تأسست في القرن السابع عشر, وعُرفت في الولايات المتحدة الامريكية بـ "مؤسسة العبودية", واصبح لهذه الظاهرة "تُجار" و"أسواق" و"تجارة دولية", وكانت نموذجاً لإسوا فترة في تاريخ الانسانية.

 

أما حديثا, فقد نجحت امريكا والدول الاوربية, في ترويض العديد من المؤسسات الحزبية والمنظمات النقابية في دول العالم, وحولتها إلى مجرد "مؤسسات وظيفية" و"معارضات أليفة" تُساعد الحكام في أعمالهم, وتضفي علي أنظمتهم صبغة الديمقراطية الزائفة. بالاضافة الي دلك أخترقت امريكا والدول الاوربية العاملين في المؤسسات الدولية, وخصوصا المؤسسات التعليمية والشبابية والنسوية, ونجحت في ترويضها وجعلها مجرد "واجهات" لخدمة أجنداتها الخاصة. ولعلي خير مثال مند انطلاق الثورة الليبية عام 2011, هو تدفق العشرات من المنظمات الدولية علي الشعب, وكانت أهدافها المعلنه هو دعم ومساعدة ابناء الشعب (وخصوصا الشابات والشباب) علي المشاركة بفاعلية في بناء دولتهم الديمقراطية, ولكن ما كشفته الايام ان لأغلب هذه الموسسات أهداف خبيتة اخري تقوم علي التشويه, والتضليل, والتفرقة, وتشجيع الفساد والفوضي والانحلال, والسعي لتوطين المهاجرين        غير الشرعيين في ليبيا.

 

في آخر مؤتمر صحفي لجهاز الأمن الداخلي الليبي تم التأكد علي:

1.   رصد نشاطًات أجنبية معاديًة تهدف لتوطين المهاجرين غير الشرعيين,

2.   ضلوع بعض المنظمات الدولية غير الحكومية في ممارسة نشاطات معادية

للدولة وبدعم أطراف أجنبية,

3.   بعض المنظمات تحول أموالها بشكل مشبوه و متورطه في شبهات تهريب           وغسل الأموال,

4.   لعل من أهم المنظمات التي ذكرها الجهاز الاتي:

* منظمة الإغاثة الدولية,

* المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة,

* المجلس النرويجي للاجئين,

* منظمة أرض الإنسان الإيطالية,

* منظمة الهيئة الطبية الدولية,

* المجلس الدنماركي ,

* أطباء بلا حدود الفرنسية,

* كير الألمانية,

* إنتر سوس وآكتد وتشزفي الإيطالية.

 

 

أما في عهد الحكم الجماهيري في ليبيا, فقد قام القدافي بتاسيس مؤسسات ترويضية عديدة, لعل من أهمها: 

1.   "مؤسسة اللجان الثورية",

2.   "مؤسسة الراهبات الثوريات",

3.   "مؤسسة رفاق القائد",

4.   "مؤسسة براعم وأشبال وسواعد الفاتح".

5.   "مؤسسة لجان التطهير.

 

وبهذه المؤسسات وغيرها نجح القدافي في ترويض الآلاف من الشابات والشباب وإخضاعهم  وتهيئتهم لتحقيق أعماله الانانية, وجعلهم مطيعين لكل ما يقوله ويفعله (حتي ولو كان خطاءاً أوغير معقول, وفي بعض الاحيان مضحك), وفيما يلي عينة مما كان يردده هؤلاء السيدات والسادة المُروضين:

·      "سير ونحن وراك يا قائد.. مبدانا مبداك",

·      "يا قائد نحن حراسك.. كل الروس فداء لراسك",

·      "يا قائد وين تنادينا .. تكسيرت لخشوم علينا",

·      "سير ولا تهتم يا قائد.. صفيهم بالدم يا قائد",

·      "شباب السابع من ابريل.. أطلع يا خفاش الليل",

·      "الفاتح في كل مكان.. الفاتح هو العنوان",

·      "الفاتح ثورة شعبية.. الفاتح ضد الرجعية",

·      "تعيشي يا ثورة الاحرار.. اللي قائدها بو منيار".

 

ولكن المُضحك المُبكي ان القدافي في ايامه الاخير,

لم يجد من حوله الا بضع افراد لم يهتفوا له,

ولكن كانوا صادقين في ما أمنوا به!!!

 

ويُروي ايضا (وهي رواية غير مؤكده, وقد تكون مجرد نكتة قابلة للتصديق) ان القداقي قرر ذات يوم, الخروج للصيد, فاخد معه بعض من الرفاق والانصار. وعند وصله الي مكان الصيد, شاهدا "طيراً", فأخد بندقيته (ما يُعرف في ليبيا بالمقرون) وصوب نحوه, ولكنه طار الطير ولم يُصب بأداء, وعندما شاهد الرفاق والانصار هذه الحادتة, ألتفوا حول القدافي وأخدوا يهتفون:

 

"الطير حقير, ميت وأيطير"!!!

 

 

فهل بعد هذا الترويض ترويض؟!

وهل بعد هذه التصرفات والسلوكيات خضوع؟!!

 

لقد استطاع القدافي ان يُخرج, من مؤسساته الترويضية, ألاف من الشابات والشباب الذين اصبحوا مؤمنين بكل ما قال, وحاولوا تقليده في كل شيء, وأعتبروه "القائد الأوحد" و"المُفكر الأوحد" و"المُعلم الأوحد" و"الرياضي الأوحد", حتي اصبح في ليبيا لا أسم يستحق الذكر (او يمكن الاشارة اليه) الا أسمه, وكل ما عداه (في نظرهم) كانت مجرد أرقام لا قيمة لها! واصبح لهؤلاء المُروضين "عقيدة جديدة" ترتكز علي انه لا شيء يستحق الايمان به والتضحية من اجله الا:

 

"الله.. وليبيا.. ومعمر .. وبس".

 

المُحزن حقاً, انه بسبب هذا المعتقد قُتل العديد من أنصار القدافي خلال حرب التحرير عام 2011,

 

والمحزن اكثر, ان بعض من هؤلاء المُروضين (ومنهم أعيان وأساتدة جامعات) لازالوا يعتقدون بان القدافي لم يمت بعد! ولازالوا يحلمون بان "دولة الحقراء"  التي أسسها ستعود من جديد! وان سعر رغيف الخبز سيعود كما كان عليه:

 

 

"الـ 10فردات.. بريع دينار".

 

 

خامساً: ترويض الحكومات

بعد ان نجحت العديد من الدول في ترويض الافراد والجماعات والمؤسسات, أخدت تسعي لترويض الحكومات وتسخيرها لخدمة اغراضها, ولعل خير مثال علي ذلك هو عملية ترويض ما يعرف بـ: "السلطة الفلسطينية".

 

فمن المحزن ان يشاهد المرء بعض قيادات هذه السلطة وهم يُبررون الاعتداء الاسرائيلي الغاشم والوحشي علي شعبهم في غزة, لا لشيء الا ان لديهم خلافات سياسية مع حركتي حماس والجهاد الاسلامي.

 

والمحزن اكثر, ان يري المرء "المؤسسة الامنية" لهذه السلطة, والتي تتكون من أكثر من  60,000 جندي, والتي تم تأسيسها بموافقة اسرائيلية, وبتدريب واشراف فريق عسكري أمريكي, تعتدي علي المقاومين الفلسطينيين في مخيمات الضفة الغربية, وتعتبرهم خارجين عن القانون, وتطالبهم بتسليم سلاحهم الذي يستخدمونه للدفاع عن أنفسهم ضد العدو الاسرائيلي.

 

سادساً: ترويض الدول

الآسوأ من ذلك كله, ان تتحول ظاهرة الترويض السياسي من ترويض أفراد وجماعات ومؤسسات الي ترويض دول, وبذلك تصبح شعوب هذه الدول مجرد "قطعان" من البشر في خدمة حكامها ليعملوا بها ما يشأوون! ويمكن اعتبار هذه النوع من الترويض أخطر وأحقر مستوي للترويض في تاريخ البشرية, وذلك لانه يشجع الحكام والدكتاتوريين علي إحتقار واستخفاف شعوبهم, ولعل خير مثال علي هؤلاء الحكام هو معمر القدافي الذي كتب مقال يصف هذا الواقع, بعنوان: ”تحيا دولة الحقراء”, نشره في تسعينات القرن الماضي وترجمه أتباعه ومُحبيه الي العديد من اللغات, وصف فيه الدولة المُروضه بأنها "دولة حقراء".

 

وبالرغم من ان القدافي لم يذكر أسم هذه الدولة التي قصدها! الا انه وصف الحقراء الذين يعيشون فيها بأنهم:

1.   "لا يحاربون ولا يهربون"...,

2.   و"ممنوع عليهم أن يعبروا عن مآسيهـم حتى ولو بالبكاء"...,

3.   و"عليهم أن يستوعبوا الهوان تلو الهوان"...,

4.   و"أن يتجـرعوا المرارة تـلو المرارة دون أن يكون لهم الحق في البكاء"...,

5.   و"ان شعب هذه الدولة "مفعـول به, ومفعول فيه, ومفعول عليه"...,

6.   و"انه مضاف إليه والمضاف إليه لابد من أن يكون مكسورا"...,

7.   و"أنهم يسلكون أبسط الطرق في الحياة ولا يكلفون أنفسكم أية مشقة”...,

8.   و"أنھم يحبون الانحطاط ويبحثون عن حل عاجل لحالهم المُزري"...,

9.   و"انهم يرون في التسليم لمحتقريهم بلا أدنى تردد حلا على أي حال"...,

10. و"انهم يبالغون في ربط مصيرهم بهم باعتبارهم إحدى التوابع المكملة لحياتهم"...,

11. و"انهم يرتضون التحقير لأن مقاومته ليست من الأمور التي تسهل حياتكم معهم"....

 

وختم القدافي مقاله ناصحاً الحقراء.. قائلاً:

 

·      "لا أريد لكم أن تكونوا أثرياء فإن ذلك يلحق بكم الضرر ويصيبكم بداء الأغنياء       الذي ليس له دواء",

·      و"لا أريدكم أن تكونوا شيوخا وفقهاء لأن ذلك يصمكم بوصمة دجل الجهلاء"!

 

ويبقي السؤال:

ماهي هذه الدولة التي تحدث عليها القدافي, والتي وصف شعبها بالحقير؟!!

 

وبالرغم من ان الاجابة علي هذا السؤال قد تختلف من شخص الي آخر, الا ان الجميع, في أعتقادي, يتفق بان اي حاكم يستخف ويحتقر شعبه, هو حاكم حقير, ينظر لشعبه علي انه مجرد قطيع من البشر خلقوا لخدمته وتحقيق أغراضه الانانية والدنئة, ومن حقه ان يعمل بهم (وفيهم) ما يشاء!

 

أولا: أدوات الترويض                                                  قد اصبح من الضروري علي السياسي لكي ينجح في الوصول الي اهدافه والمحافظة علي مكانته ان يستخدم ادوات الترويض المتاحة والمناسبة له. والحقيقة ان أدوات وثقنيات الترويض السياسي عديدة, لعل الشكل الآتي يوضح تسلسل أهم هذه الادوات:

أولا: التربية

أول هذه الأدوات الضرورية للترويض السياسي هي "التربية". وهنا يمكن القول أن من أهم الاسباب التي أدت إلى تخلف أمتنا (وخصوصا وطني ليبيا) هو إهمالنا قضية التربية، وخصوصا بعدها السياسي. بمعني، يمكن القول إن التربية السياسية الصحيحة لا وجود لها في ثقافتنا، وتعتبر عند الاغلبية من المكروهات،                وعند بعض السادة من المحرمات رافعين شعار:

 

من السياسة.. ترك السياسة

 

وعند البعض الآخر، لا يجوز ممارسة السياسة إلا لمناصرة وحماية الحاكم الذي يؤيدونه ويعتبرونه "ولي أمرهم", وهذا الولي لا يجوز - في نظرهم - الخروج عن طاعته حتى ولو كان "طاغياً" أو "فاسقاً" أو "مستبداً".

 

ومنذ ثمانينات القرن العشرين، أدرك الخبراء والاستراتيجيين الامريكان والاوروبيين هذه الحقيقة، فوضعوا استراتيجية جديدة لـ "محاربة الإسلام من داخله", وذلك بالتركيز على "الخلافات" بين "الجماعات" و"الفرق" و"الطوائف" و"الشعوب" الإسلامية للتفريق بينها والعمل على إضعافها.

 

ولعل من أهم القضايا التي لفتت أنتباههم هي "قضية التربية السياسية"، فاتفقوا على إعادة تشكيلها، وصناعة "محتواها" واستخدام "مصطلحات" جديده وغريبة لها. فعلى سبيل المثال: قسموا الإسلام إلى نوعين:

(أ‌)           "إسلام سياسي" – يؤمن المسلم فيه بأن الإسلام ’منهج حياة وأن الدين والسياسة وجهان لعملة واحدة.

(ب‌)        "إسلام غير سياسي، أي علماني" - يؤمن المسلم فيه بأن الدين شأن شخصي يعني عبادة الله والاقتراب منه، وأن الدين والسياسة لا يلتقيان، فالدين مُقدس بينما السياسة قذرة ولا اخلاق لها.

 

وبالإضافة إلي ما كان يُفكر ويخطط له الاستراتيجيين في أمريكا وأوروبا، كان حكام العرب يتجاهلون المؤسسات التربوية في مجتمعاتهم، وخصوصا دورها السياسي في بناء الدول الديمقراطية الحديثة، والاسوأ من هذا كله أنهم فصلوا التربية عن التعليم. فعلى سبيل المثال: لقد نجح القذافي، منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، في فصل المؤسسات التربوية عن المؤسسات التعليمية رافعاً شعار:

الطفل .. تربيه أمه!

 

وقام ايضا باستخدام مؤسسات بديلة، كالتي ذكرتها أعلاه، وأدوات آخري كـ "المدرج الأخضر" و"دورات تدريبية" و"معسكرات عقائدية" مثل "معسكر جدايم".

 

وهنا قد يسأل سائل فيقول:

 

 

 

 

 

ما المقصود بالتربية السياسية؟

 

يمكن تعريف التربية السياسية على أنها:

·      تعني مجموع العمليات والأدوات التي يستطيع بها الإنسان تعلم واكتساب الآراء والأفكار والقيم السياسية في مجتمعه،

·      وقد تعنى "التهيئة

·      كما قد تعني "التأهيل

·      أو "التكييف" السياسي في المجتمع الذي يعيش فيه الانسان،

·      أو تعني "كل ما يساعد" الفرد على تشكيل شخصيته.

·      أو تعني تعلم المواطن "السلوك والانتماء" السياسي في مجتمعه.

 

بمعني آخر،

 

·      هي عملية تعتنى بالكيفية التي يتم بها تأهيل المواطن سياسيا وثقافيا واجتماعيا،

·      وهي عملية تعتنى بمعرفة عمليات الحصول على الحس السياسي في الدولة.

·      وهي عملية تعنى أن تشكيل الشخصية السياسية هي عملية شاقة وتراكمية،

·      وهي عملية تمكن جيل معين من نقل أفكاره ومعتقداته للأجيال القادمة،

·      وهي عملية تعنى أن الإنسان هو نتاج المعطيات والشروط التي يتربى عليها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ثانياً: التعليم

أما الاداة الثانية من الادوات الضرورية للترويض السياسي فهي "التعليم"، فقد   أتفق جُل الخبراء بأنه من أهم ادوات الترويض وتحويل شخص ما إلى كائن مُطيع وخاضع. أذ يعمل التعليم على مساعدة شخص ما لتحقيق قدر أكبر من الليونة والمرونة والطاعة لما طلب منه.

انطلاقاً من هذا الفهم، قامت الولايات المتحدة والدول الاوربية منذ سبعينيات القرن الماضي بتشجيع الدول العربية على:

(أ‌)           بعث شبابها (وخصوصاً المتفوقين منهم) للدراسات الجامعية والعليا في امريكا وأوروبا،

(ب‌)        شجعت الدول العربية على تغيير مناهج التعليم وافراغها من محتواها (الديني والقومي) تحت شعار الحداثة والتمدن.

وقد آتت هذه الاستراتيجية ثمارها كما هو مشاهد اليوم في جُل النخب العربية الحاكمة (وخصوصا في دول الخليجفجُل هذه النخب، التي تعلمت في أمريكا وأوروبا، والتي بدأ السعي في إعدادها منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، قد أصبحت هي المُسيطرة والحاكمة في شؤون بلدانها ومجتمعاتها، مما أدي الي ترويض الدول والشعوب العربية وجعلها تابعة وخاضعة لسياسات امريكا وأوروبا. ولعل خير مثال على ذلك: هو موقف النخب العربية الحاكمة من القضية الفلسطينية هذه الأيام، وخصوصا من الحرب الهمجية على غزة.

 

ثالثاً: التدريب                                                                          أما الأداة الثالثة من الأدوات الضرورية للترويض السياسي فهي "التدريب"، وهو عملية تمرين أو تطبيق تهدف إلى اكتساب مهارات أو خبرات جديدة يحتاجها شخص ما للقيام بمهام محددة أو خاصة. والترويض كمفهوم سياسي، يعني عملية نقل شخص ما من حالته الطبيعية (أو الأنية) التي يعيشها إلى الحالة التي يصبح فيها طيعا وخاضعاً لولي أمره.

ويعتمد هذا النوع من الترويض بالدرجة الأولي على:

(أ) دورات تخصصية.

(ب) وورش عمل.

وقد استخدمت امريكا والدول الغربية هذه الأداة لترويض النخب السياسية في الدول النامية، وذلك بالتركيز على ثلاث شرائح أساسية في هذه المجتمعات هي: الشباب والمرأة والقوات المسلحة (وخصوصا - الجيش والأمن).

 

رابعاً: التأهيل                                                                                     أما الأداة الرابعة من الأدوات الضرورية للترويض السياسي هي "التأهيل" أو "إعادة التأهيل"، وهو عبارة عن وسيلة تعني تهيئت شخص ما لعمل خاص، وذلك بضبط سلوكه عن طريق الثواب والعقاب، وقد تعني جعل شخص ما كفء (اي ذو كفاءة)، وقد تعني مجموعة من العمليات المتشابكة والمتتابعة واللازمة لتمكين الأفراد على المحافظة على نشاطاتهم اليومية والمعتادة. بمعني آخر، التأهيل هو تناسب الشخص لبعض الوظائف أو المناصب التي يرغب القيام بها، وقد يعني عملية استعادة شخص ما لأقصي ما تسمح به قدراته.

 

ثانياً: سلم الترويض

لتبسيط الأمر، يمكن تقسيم سلم الترويض السياسي إلى ثلاث مستويات أساسية، كما هو    واضح في الشكل الآتي:

 

أولا: التليين                                                                                   بمعني تخفيف أو تلطيف أو تهدئة طبع أو سلوك شخص ما، أي جعله ليناً وسهل التعامل معه.

 

ثانياً: تدجين                                                                              يعني "الإخضاع" لسلطة ما أو "التكيف" أو "التأقلم" معها. بمعني آخر، يعني جعل شخص ما يألف العيش بالوضع الذي هو فيه. فعلي سبيل المثال: الدكتاتور في دولة ما يعمل على تدجين الأفراد في دولته من أجل جعلهم مجرد كائنات تستجيب لأوامره دون أدنى نقاش ولا تردد.

 

 

ثالثاً: الاستعباد

يعني توصيل شخص ما الي درجة "العبودية" و"الاستغلال" من خلال إجباره على القيام بأمور وتصرفات رغم إرادته. بمعني آخر، هو عملية إخضاع شخص ما لتحقيق الطاعة المطلقة للمُروض. وبذلك يمكن اعتبار الاستعباد أسوأ وأدنى أنواع الترويض.

 

الخلاصة                                                                  لعله من المناسب أن أختم هذا المقال بالتذكير بأهم القيم والأفكار والقضايا التي وردت فيه، والتي من أهمها:

 

 

 

 

 

أولا: النظر للترويض كـ "أداة"                                                          بمعني ضرورة التأكيد على أن الترويض السياسي في سياقه العام، هو مجرد أداة (أو عملية) تستهدف تعديل أو تطوير شخص (أو جماعة أو مؤسسة أو دولة ما) بغية ضبطه وتأمين بلوغه إلى تحقيق الهدف المطلوب أو المرغوب للمُروض، وبمعني أخر، هو في الأصل ليس أداة سلبية أو ضارة وإنما تعتمد على (من) يستخدمها ولماذا؟

 

ثانيا: النظر للترويض كـ "آفـة"                                                                                                            بمعني ضرورة التأكيد على أن أداة الترويض قد تم استخدامها، للأسف الشديد، من قبل البعض (وخصوصا في مجال السياسة) لتحقيق مصالح وأهداف أنانية وضارة بالأخرين, وتحولت بذلك من "أداة إيجابية" إلى "أداة سلبية" و"آفة ضارة وخبيثة", وتحولت بذلك إلى "سلاح قاتل" في يد سياسيين مُفسدين وفاسدين لا ينظرون الي أخيهم الانسان كإنسان, وإنما مجرد مخلوق ينبغي توظيفه واستغلاله والاستفادة منه لتحقيق أغراضهم الشخصية. وعليه لابد من مواجهة هذه الآفة السياسية الضارة ومحاربتها بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة والمشروعة.

 

ثالثا: النظر للترويض كـ "مؤسسة" 

بمعني ضرورة التأكيد على أنه لكي نواجه هذه الآفة الخبيثة والضارة بنجاح لابد من الاهتمام بأدوات وتقنيات الترويض وتوظيفها التوظيف المناسب والصحيح، ولابد من إصلاح مؤسسات الدولة وفي مقدمتها المؤسسات "التربوية" و"التعليمية" و"المهنية" و"السياسية" و"العسكرية" و"الامنية". وذلك لان جُل هذه المؤسسات إما تقليدية أو متخلفة أو فاشلة أو مخترقة. فعلى سبيل المثال: يمكن القول إن القوي الدولية وخصوصا امريكا والدول الأوربية، قد نجحت مند عام  2011 في اختراق مؤسساتنا، وعملت على ترويض العديد منها وحولتها إلى مجرد "مؤسسات مجتمعية وظيفية" تشتغل لصالحها و"معارضات سياسية أليفة" تشتغل لصالح الحكام الموالين لها. وعليه لقد أصبح من الضروري الإسراع في دسترة مؤسسات الدولة السيادية، والسعي لبناء دولة المؤسسات التي تقوم على القانون وتسود فيها العدالة ويسعي فيها كل إنسان لتحقيق سعادته.

 

رابعاً: النظر للترويض كـ "قضية تربوية وتعليمية"

بمعني ضرورة التأكيد على أنه لكي نواجه هذه الآفة الخبيثة والضارة بنجاح، لابد من إصلاح المؤسسات التربوية والتعليمية والانطلاق منها لإصلاح منظومة السلطة والمؤسسات الأخرى. وذلك لأن المؤسسات التربوية هي الأساس الضروري لبناء شخصية أي فرد في المجتمع. فبدون التربية لا يمكن غرس قيم مكارم الأخلاق والآدب الحميدة والسلوكيات الإيجابية في المواطن. وإن المؤسسات التعليمية ضرورية لتحقيق النمو والتقدم والازدهار، ولأنها مهمة لاكتساب العلم والمعرفة واستخداماتها، وهي التي ستبنى أجيال المستقبل وتنشر الثقافة بين المواطنين. وقد أدرك عدو أمتنا هذه الحقيقة منذ زمناً بعيد، فسيطر بذلك على مؤسساتنا التربوية والتعليمية، وكان نتاج ذلك نجاحهم في السيطرة على ثرواتنا وعقولنا. وبذلك      علينا أن ندرك بأنه:

 

"إذا صلحت مؤسستي التربية والتعليم تقدمت الدولة، واذا فسدتا تخلفت"

 

خامساً: النظر للترويض كـ "قضية أخلاقية"

الحقيقة التي لا جدال فيها، أنه قد كان لنا (في ليبيا)، في بداية تأسيس الدولة الدستورية الأولي (1952 – 1969)، مؤسسات تربوية وتعليمية ناجحة وفاعلة، ولكن اليوم وللأسف الشديد، لا يوجد لدينا "لا تربية ولا تعليم"، وبذلك ضاعت "مكارم الأخلاق في المجتمع"، وانتشرت "ظاهرة القابلية للفساد" – أي استعداد الأفراد لممارسة الفساد والرغبة في استخدامه كوسيلة لتعظيم مكانتهم ومكاسبهم الشخصية، ودخلوا بذلك إلى ما يمكن ان نطلق عليه "مرحلة ما بعد الاستحياء" – أي أن هؤلاء الأفراد أصبحوا لا يستحون في القيام بأي شيء يرغبون بالقيام به! ويعتقدوا بأنه لا رادع لهم، وأنهم فوق القانون, وأصبحت في نظرهم:

 

"قيمة الإنسان تقدر بالدينار .. لا .. بالأفكار"!

 

وعليه فلابد من الاهتمام بتربية النشئ على "مكارم الاخلاق"، وجعلها الأساس ونقطة الانطلاق التربوي، وخصوصا في السنوات الأولي من التعليم، أذا أردنا إعادة بناء الوطن والمواطن في الدولة الحديثة. ولعل من أهم هذه المكارم (العشر) التي أجمع عليها العرب في الجاهلية وجاء الإسلام ليقرها ويقوم بتثبيتها، وهي:

1.   الصدق: لأنه ثمرة الإخلاص والتقوى.

2.   الوفاء بالوعد: لأنه من صفات المؤمنين.

3.   الأمانة عند الائتمان: لأن خيانة الأمانة جريمة أخلاقية ودينية وقانونية.

4.   مداراة الناس: لأنها قوام المعاشرة الحسنة، والاحترام، واللين في الكلام.

5.   رد الجميل: لأنه من الواجب مبادلة أهل الفضل بالافضل ومقابلة الجميل بالأجمل.

6.   إكرام الضيف: لان رسولنا الكريم () قال: "من كان يؤمنُ بالله واليوم الأخر فليُكرم ضيفَه".

7.   حسن الجوار: لأن الإحسان لمن حولك ضرورة لسعادتك، ولهذا قيل "الجار قبل الدار".

8.   إغاثة الملهوف: لأن مساعدة من هو في محنة أو أزمة إذا استغاث بك واجب انساني.

9.   إجارة المستجير: لأنها من أسمى صور التعاون والدعم والتكافل والوقوف مع المظلومين.

10.                 الشجاعة والإقدام: لأنها تقود إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل سواء في الأقوال او الأفعال.

 

هذه هي مكارم الاخلاق العشر التي أتي رسولنا الكريم () لإتمامها عندما قال "إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ". وعلى الجميع أن يعي أنه لن تقوم لنا "دولة عادلة" بهذه الثقافة والاخلاق السائدة هذه الأيام، وصدق الشاعر أحمد شوقي الذي قال:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

 

سادساً: النظر للترويض "كعامل للخوف"

عند استخدام أداة الترويض فيما يلي مجموعة من النصائح (المتعلقة بالخوف) على كل من يرغب في ممارسة السياسة الاهتمام بها وأخذها في الاعتبار وهي:

(6)         على السياسي أن يدرك أن الخوف عامل ضروري ومهم في حياة الانسان.

(7)         على السياسي أن يعي ان الخائف لا ينفع معه المنطق.

(8)         على السياسي ألا يفترض "أن الانسان إذا عرف كل الحقائق سيتصرف وفقاً لذلك".

(9)         على السياسي أن يؤمن بأن الخوف في أغلب الأحيان أهم وأكثر تأثيرا من القوة!!! وقد عبر عن هذه الحقيقة الصحفي ميك هيوم رئيس تحرير مجلة سبايكدفي مقال له بعنوان: "الخوف والانهزامية يصيبان الغرب." قال فيه: "إن الخوف والانهزامية يصيبان الغرب ورغم تفوقهما العسكري الساحق في أفغانستان، وآلاتهما المتطورة لإدارة وسائل الإعلام، فإن الحكومتين الأميركية والبريطانية تشعران بقلق بالغ إزاء خسارة الحرب الدعائية"(ميك هيوم,2001).

(10)     على السياسي أن يدرك بأن الخوف يزداد قوة عندما يقترن بالجهل.

بعد كل ما ذكرت أعلاه، هل في الإمكان، العمل على التخلص من "آفة الترويض السياسي"؟ والسعي لإعادة استخدام الترويض بأساليبه الصحيحة والمفيدة للجميع وبالجميع، والعمل على تحقيق أهدافنا السامية والنبيلة، وذلك بإعادة هيكلة مؤسسات دولتنا التربوية والتعليمية والسياسية والمهنية والعسكرية والأمنية، لكي نستطيع  إعادة بناء دولتنا الديمقراطية وفق دستور عادل نحلم به جميعاً.

أدعو الله أن يتحقق ذلك قبل فوات الأوان.

وأخيرا، يا أحباب، لا تنسوا أن هذا مجرد رأي،

فمن أتي برأي أحسن منه قبلناه،

ومن أتي برأي يختلف عنه احترمناه.

والله المســتعـان.

 

 

 

=====

المراجع

Tom Regan | csmonitor.com

Politics of 'fear over vision' explored on British television

October 18, 2004

 

Ruth Rosen. The Politics of Fear

http://www.voxpopuli-ne.com/2003_01/page68.html

 

دينيس جيت عميد المركز الدولي بجامعة فلوريدا.

By Dennis Jett, The politics of fear, June 17, 2002 edition

http://www.csmonitor.com/2002/0617/p09s01-coop.html

 

جل كيمبال (Jill Kimball)

PROVIDENCE, R.I. [Brown University]

https://www.brown.edu/news/2021-09-01/costsofwar

 

ميك هيوم , هو رئيس تحرير مجلة سبايكد , ورقة بعنوان: "الخوف والانهزامية يصيبان الغرب."                                                                                         

في مؤتمر سبايكد بعنوان "بعد الحادي عشر من سبتمبر: الخوف والكراهية في الغرب"،

عقد يوم 26 مايو, 2001. معهد بيشوبس جيت في لندن.

http://www.spiked-online.com/Articles/00000002D27C.htm

 

ميك هيوم , هو رئيس تحرير مجلة سبايكد , ورقة بعنوان: "الخوف والانهزامية يصيبان الغرب." في مؤتمر سبايكد بعنوان "بعد الحادي عشر من سبتمبر: الخوف والكراهية في الغرب"، عقد يوم 26 مايو, 2001. معهد بيشوبس جيت في لندن.      http://www.spiked-online.com/Articles/00000002D27C.htm

 

No comments:

Post a Comment

أخر مقالات نشرتها