البارا دايم* السـياســية
من منظور إسلامي
(1 من 5)
د. محمـد بالروين
كل دارس في الفكر السياسي الاسلامي يستطيع أن يستنتج أن “البارا دايم” (Paradigm) السياسية السائدة اليوم، والتي يعتمد عليها الاغلبية العظمي من المسلمين في تفسير الظواهر والأحداث السياسية، قد بداءة في نهاية القرن الرابع الهجري.
ومنذ ذلك الحين سادت في الغالب "بارا دايم واحدة" سيطرت على كل الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات الاسلامية. ترتكز هذه “البارا دايم” على مبادئ وفرضيات ونماذج ونظريات عديدة، لعل من أهم المبادئ الآتي:
"مبدأ قفل باب الاجتهاد"
و"مبدأ دفع الضرر"
و"مبدأ سدّ الذرائع"
و"مبدأ "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "
و"مبدأ قبول حكم الغلبة والقهر".
ولقد كان إجماع الأغلبية العظمي من علماء الأمة، الذين تبنوا هذه البارا دايم وعملوا من خلالها، هو تحقيق ما يُعرف اليوم بـ "الصالح العام" وذلك بتقديم:
"مبدأ دفع الضرر" على "مبدأ جلب المصلحة",
و "مبدأ سدّ الذرائع" على "مبدأ الاصل في الأشياء الإباحة",
و " مبدأ كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، ..." على
"مبدأ من سن سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها ..."**
في اعتقادي المتواضع، لقد آن الأوان، وأصبح من الضروري بل من الواجب، إعادة النظر في مُعطيات وفرضيات ونماذج ونظريات هذه “البارا دايم” التي أصبحت عاجزة عن الاستجابة لتحديات العصر، ومتطلبات الجماهير، والنهوض بالأمة خصوصا في هذا الوضع الحرج الذي تعيشه الشعوب الاسلامية اليوم.
لقد تسببت هذه “البارا دايم” في نقل الامة من حالة أخد المبادرة والسعي لجلب المصلحة وتحقيق العدل وإعطاء حق الاختيار الي حالة دفاعية ضعيفة ورافضة لكل ما هو جديد ومُفيد للامة. وأصبح هدف هذه “البارا دايم” الرئيسي هو:
الاستقرار.. لا.. الاختيار،
والاعتماد على "التراث".. لا على.. "المعاصرة والحداثة".
ولعل المرء لا يبالغ أذا قال بان الأغلبية العظمي من المفكرين والعقلاء والخيّرين مُتفقون اليوم بان أمتنا الإسلامية تواجه أزمة سياسية قاسية وان تجاهلها لن يقود الا للمزيد من التخلف والانحطاط والقهر والظلم للشعوب الإسلامية، والي حرمان احرار العالم في كل مكان من معرفة الإسلام الحقيقي ومقاصده العالمية العظيمة.
والحقيقة إن المشكلة الرئيسية التي تواجه المسلمين اليوم لا تكمن في وصف الواقع السياسي وعرض أسباب المشكلة وانما تكمن، بالدرجة الاولي، في غياب الآليات والبرامج والاستراتيجيات لعلمية والعملية المناسبة لتحدى هذا الواقع المرير والمقدرة على تغييره الى وضع أقوي وأفضل.
بمعني آخر، إن ما تحتاجه أمتنا اليوم هو حُدوت "نقلة نوعية في التفكير النقدي والابداعي" تقود الي تحول في المناهج والآليات والأساليب التي نعمل بها، ونسعى للتخلص من الفرضيات القديمة، والأفكار الميتة، والبرامج المُشوهة، والنظريات الخاطئة، والاستراتيجيات الممسوخة السائدة اليوم في تفكيرنا السياسي.
ويمكن تحقيق ذلك بتبنّي “بارا دايم سياسية ثانية" تنطلق من معطيات واقعية، وفرضيات حضارية، ومنهجية علمية، وتتبنّى آليات وتقنيات حديثة لا تتعارض مع قيمنا ومعتقداتنا، وقادرة على الاستجابة لكل الازمات والتحديات التي تواجهنا.
وللمساهمة في تحقيق "البارا دايم السياسية الثانية" لعله من المُفيد والمناسب في هذا المقال أن أحاول الإجابة على الأسئلة التالية:
1. ماذا نعنى بالبارا دايم السياسية؟
2. ماهي أهم أهدافها؟
3. ماهي أهم مبادئها؟
4. ماهي أهم وسائلها؟
5. ماهي أهم العوائق التي تواجهها؟
معني البارا دايم
يمكن القول ان هناك شبه إجماع اليوم بين علماء الدراسات الحديثة باستخدام مصطلح “البارا دايم” (Paradigm) للإشارة إلى:
"مجموع الأطر النظرية والآراء السائد لدراسة وتفسير
الظواهر والأحداث في مجال معين من مجالات المعرفة والعلم".
بمعني إنها مجموعة من الفرضيات والمفاهيم والنماذج والنظريات التي تشكل "واقع علمي مُتفق عليه" بين علماء في مجال تخصصهم. وبمعني آخر، تعني وجود مجموعة من الفلسفات والنظريات والأساليب المشتركة من قبل "مُجتمع علمي" في مجال معين.
والحقيقة ان مفهوم “البارا دايم” قد أصبح مصطلح علمي ومنهجي مُهم في فلسفة العلم مند أعقاب نشر مؤرخ العلوم توماس كوهن (Thomas Kuhn) لكتابه "بناء الثورات العلمية (1962)." وبذلك يمكن اعتبار توماس كوهن هو أول من قدم هذا المصطلح لدراسة وفهم كيف تتطور العلوم الحديدة. ووفقا لكوهن فإن “البارا دايم”:
(أ) تستمر لفترة طويلة من الوقت حتى تعجز عن مواجهة التحديات والإجابة عن الأسئلة وتصاب بالانزعاج من قبل عدد كبير مما يسمى بـــ المفارقات (Anomalies) التي لا تنسجم مع بعضها البعض ولا يمكن تفسيرها باستخدام قواعد وآليات “البارا دايم السائدة". عند ذلك يتم استبدالها بـ “بارا دايم ثانية" يمكن بواسطتها حل وتفسير المعضلات والتحديات القديمة.
(ب) يُمثل البديل "البارا دايم الثانية" مرحلة جديدة في التفكير والتفسير وفهم الأشياء والظواهر.
(جـ) تحدد “البارا دايم الثانية" الطرق والاساليب التي يتم بها تصميم التجارب وتفسير نتائجها في كل مجال من مجالات العلم والمعرفة (لمعرفة المزيد راجع: كوهين, 1968).
في الجزء الثاني من هذا المقال
سوف أحاول تسليط بعض الضوء
على أهم أهداف "البارا دايم السياسية الثانية".
يتبع...
والله المستعان.
=========
المراجع
* “البارا دايم” هي مصطلح سياسي ليس له مرادف دقيق في لغتنا العربية، وعليه ومن باب تحرى الدقة في التعبير حاولت استخدامه كما هو.
** لقد ركز علماء هذه البارا دايم دروسهم وأحاديتهم وفتواهم على حديث رسولنا (ص) الذي يقول فيه: "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" (رواه أبو داود والترمذي وأبن ماجه)... وتجاهلوا للأسف الحديث الصحيح الدي يشجع على الابداع والاختراع والابتكار، وهو حدبت صحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي يقول فيه: "مَنْ سَنَّ في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرُها وأجرُ مَنْ عمِلَ بها من بعده، لا يَنْقُصُ ذلك من أجورِهِم شيئًا، ومن سنَّ في الإسلام سنةً سيئةً كان عليه وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عمِلَ بها من بعده، لا يَنْقُصُ ذلك من أوزارِهِم شيئًا"(رواه مسلم وابن ماجة والترمذي).
Thomas S. Kuhn (1968), The Structure of Scientific Revolutions. Second Edition. International Encyclopaedia of Unified Science. https://www.lri.fr/~mbl/Stanford/CS477/papers/Kuhn-SSR-2ndEd.pdf