من مفهوم البلعطة السياسية
"بلعوط"
مُصطلح شعبي يُستعمل في دول المغرب العربي لوصف شخص يعتقد في نفسه أنه شاطر ويدعى
انه أذكى من غيره وعلي دراية بكل الشؤون والأمور المحيطة به (الحسن منها والقبيح).
بمعنى كلمة "بلعوط" كما وردت في كتاب رامي خيري السراج (رحمه الله) عن لهجة طرابلس "هو الشخص الذي يفرط ويبالع في
إطهار الإستعداد لتقديم المساعدة والخدمة والوعود, ولكن في النهاية يخالف كل ما
وعد به لإمر في نفسه..." ويقول السيد السراج أيضا ".. لم أجد في المعاجم
العربية كلمة بلعط الا في قاموس المصطلحات والتعابير الشعبية لإحمد أبو سعد, بمعنى
بلعوط: أسم لحشرة مائية تكون في ماء الغدران الآسن. وسمّي بلعوط لأنه يضطرب في
الماء ويتحرك. ومنه أشتقوا لفظة بلعط بمعنى تحرك. وجمعها بلاعيط..."
وعليه يمكن
القول بان مصطلح البلعوط – وبإختصار شديد – يعنى أنسان نرجسي يتلاعب بالكلمات وان افعاله
عكس اقواله. وانه شخص يُجيد التمثيل ولعب الأدوار وإعطاء الوعود الكاذبة, وانه على
إستعداد لإحتقار نفسه وإذلال كرامته
واستخدام اسلوب البلطجة لتحقيق ما يُريد. وكنتيجة لذلك فهو مُستعد لبيع وطنه وخيانة
شعبه والتخلى عن كل من حوله.
البلعطة السياسة
ولعل من بديهيات القول ان السياسية السائدة هذه
الايام في ليبيا هي نتاج ثقافة المجتمع الذى عمل القدافي على تاسيسه وترسيخه خلال
فترة حكمه. وان السمة الأساسية في هذه الثقافة هي ما يمكن ان نطلق عليه بــ "فن البلعطة
السياسية," والتى تقوم علي مجموعة من القيم لعل من أهمها الآتي:
أولا: الحشرية
البلعوط السياسي هوشخص
فضولي (أي حشري) يحاول دائما أذخال نفسه في امور لا تهمه وليست من أختصاصه
وفي أغلب الاحيان لا يفقه فيها ولا يثقن منها شيء. بمعنى هو شخص يدعى انه يعرف كل شيء سواء في تخصصه أم لا. وهذا السلوك يقوده
في أغلب الاحيان لوضع نفسه والآخرين في مواقف مُحرجة قد تتطور في بعض الاحيان لتصبح
جارحة ومؤلمة ومُكلفة. وبمعنى آخر إن "ظاهرة الحشرية" هي عملية تطفل على
حياة الغير والتعرض لشؤونهم العامة والخاصة وتدخل الشخص فيما لا يعنيه. ومن المؤسف
ان هذا النوع من البشر يعطون لأنفسهم الحق في التدخل في شؤون الآخرين وتتبع أمورهم
ومعرفة أحوالهم, والأسوأ من كل ذلك انهم يُغلفون ويبررون ممارساتهم بدرائع متعددة
ومختلفة كالدين والوطنية والمعرفة والخبرة والكفاءة وغيرها.
والحقيقة ان إنتشار هذه
الظاهرة في مجتمع ما هي دلالة قاطعة على الانحطاط الأخلاقي في هذا المجتمع ومؤشر من مؤشرات تخلفه وفقره الفكري
والمعرفي. ويمكن وصفها بأنها من أسوء العادات وأقبح الأعمال والتصرفات الإجتماعية.
ولابد علي الشعوب التى تريد النهوض والتمدن والتحضر ان تحارب هذه الظاهرة وتعمل
علي التخلص منها, وذلك لانها ظاهرة ضارة ستقضى علي المعرفة والتخصص والكفاءات,
وستُشجع علي الفساد والغوغاء والفوضى وسيادة الجهل والتخلف.
ثانيا: المسكنة
أما الصفة الثانية للبلعوط السياسي
فهي "التمسكن." ومفهوم المسكنة هنا يقوم على أساس تظاهر الشخص بـ
"الضعف" و "الإحتياج" و"المظلومية" و
"التهميش" من اجل الحصول على تعاطف ومساعدة كل من حوله. وهو شخص في
العادة يحاول الإدعاء بأنه ليس طالب للمكانة ولا للمال ولا للجاه ولا للسلطة. ومن
الصعب معرفة ما يريده هذا الشخص حتى وصوله لهذفه الحقيقي. بمعني هو الشخص
الذي يبدأ علاقاته مع الآخرين بالتظاهر بالضعف والخضوع والطاعة والوداعة والإخلاص الي
ان يصل الي هدفه الحقيقي وكل ما يريد, وحينئد يظهر لهم حقيقته التى هي عكس كل
التصرفات التى تظاهر بها في البداية. وبمعنى آخر هو الشخص الذى ينطبق عليه
المثل الشعبي الذي يقول: "يتمسكن حتى
يتمكن."
ثالثا: التدليس
وما
ان يتم قبول المُتمسكن في المحيط الشعبي المحيط به, أو في داخل المؤسسة التى يعمل
بها, حتى يتبنى "منهج التدليس" لكى يستمر هذا البلعوط السياسي في
تمكين نفسه وتحقيق أهدافه, وحتى لا تظهر حقيقته لمن لا يعرفه. وهنا لابد من
الأشارة الي ان للتدليس أنواع ومظاهر عديدة ومُختلفة. فالتدليس مثلا, هو
أن يروي الراوي عن شخص ما لم يسمعه منه, أوبصيغة مختلفة تحتمل السماع وعدمه. أو
بإسلوب لا يسمِّي الراوي من حدَّثه. أو أن يوهِم أنه سمع الحديث ممن لم يسمعه منه.
وقد يكون في صورة المبالغة في شيء ما, أوفي صفة كتمان نقص أوعيب في شيء ما حتى لا
يعلمه المستفيد من هذا الشيء. أما فى القانون المدنى, فالتدليس هو محاولة خديعة المتعاقد
من أجل ايقاع المتعاقد في خطاء يدفعه ويؤدى الى أكمال الصفقة, وبمعنى آخر هو تضليل
المتعاقد وإقناعه بأشياء تخالف الحقيقة. وهو ببساطة استعمال وسيلة غير مشروعة بقصد
الخديعة.
رابعا: المُتقلب
السياسي
البلعوط بإسلوب بسيط هو الشخص المتقلب مع الاوضاع والمتناقض في أقواله وأفعاله.
بمعنى هو الذي يقول ما لايفعل, وهو المتحايل الكذاب, وهو الشخص كثير الكلام وقليل
الاعمال وفاقد المصداقية. وبمعنى آخر هو الشخص المُوصوف بالمبالغة والأفراط في التلون
وكثرة الجدال والإدعاء بالمعرفة. وتراه يقفز بين المواقف المختلفة
والمتناقضة ومن الصعب ان تعرف له مُعتقد ولا ملة ولا مذهب, ويصعب اﻻمساك بمواقفه
ومتابعتها والوصول معه الى نتائج نهائية. وبمعنى آخر السياسي البلعوط هو شخص دائما
مع الواقف والمنتصر بغض النظر على من هو
هذا المنتصر!
خامسا: التقية
بعد توفر الصفات الأربعة (الحشرية
والتمسكن والتدليس والتقلب) في البلعوط السياسي, تأتى الصفه الخامسة وهي: "التقية." وهى من
المرتكزات الرئيسية والضرورية في ثقافة البلعطة السياسية. و"التقية" - في
تعريفها العام - هى أن يقول أو يعمل البلعوط السياسي خلاف ما يعتقده لاتقاء
مكروه يقع به لو لم يتكلم أو يعمل بالتقية.
الخاتمة
بإختصارا
شديد يمكن القول ان البلعوط السياسي
هو الشخص الذى تجتمع فيه علي الأقل خمس خصال ضارة وسيئة وهي: الحشرية والمسكنة
والتدليس والتقلب والتقية. والحقيقة المؤسفة ان هؤلاء البلاعيط قد تكاثروا في هذه
الايام والظروف الحرجة التى تمر بها بلادنا. ومن المؤسف انهم أنتشروا في كل مكان
وخصوصا في المؤسسات السيادية وجميع مفاصل الدولة, وأعطوا لإنفسهم حق الحديث
والحوار والتفاوض باسم الشعب ودون حسيب ولا رقيب! وأصبحوا يشكلون ظاهرة سيئة
وخطيرة جدا تهدد وجود الدولة الليبية, وستقضى لو أستمرت - لا سامح الله - على مفهوم
الوطن الذى يسعى كل المخلصين لإيجاده.
وهنا
لابد من الإشارة والتأكيد علي ان البلعطة هي الجانب السلبي والقبيح والمرفوض من
السياسة وليس الجانب الإيجابي والمرغوب منها. فالسياسي الحقيقي والذى يحتاجه وطننا
اليوم, ليس هو الشخص البلعوط ولا الكذاب ولا الدجال, ولا المتلون حسب الظروف والاماكن
والازمان, وانما في الحقيقة ان الشخص السياسي الوطني هو الذى لا يتكلم أكثر مما
يعرف, وإذا تكلم يحاول الالتزام بكلمته
والا يفقد مصداقيته. وهو الشخص الذى يُثقن ويُخبر عمله, ولا يعد بأكثر مما يستطيع, وإذا وعد يحاول
الوفاء بوعده. وهو الانسان الذى يحترم مهنته وتخصصه ومقدراته ولا يتدخل فيما لا
يعنيه.
والحقيقة
المؤلمة ان بلادنا ليبيا هذه الايام تعيش ما يمكن ان نطلق عليه بــ "عصر البلاعطة." هذا الزمن الذى أصبح فيه عدد كبير من النخب
الليبية مجرد بلاعطة مُحترفون, وتحولت
البلعطة والتبلعط عند هؤلاء الي مهنة ومنهج حياة, والي شيء يفتخرون به في العلن! ويعتبروا
في كل من هو وطني مُخلص يرفض البلعطة ويحاول محاربتها على انه شخص سادج وبسيط, أو
كما يقول البعض منهم "طيب!" ولا يفقه السياسة ولا الواقع السياسي الليبي!
ومن
المؤسف انه بسبب هؤلاء البلاعيط المحترفون
أصبحت مؤسساتنا الرسمية, ومجالسنا السيادية, وتجمعاتنا الفكرية مجرد أماكن للفضول
والتطفل والكذب والتدليس, وأصبح أبناء الشعب المخلصين كألأيتام علي موائد اللئام.
وأن هولاء البلاعيط هم من إختطف الثورة وحولوا الوطن الي مجرد غنيمة يتقاسمه
البلاعيط علي أساس المحاصصه. وعليه فهم وحدهم من جني علي شعبنا, وجعل بلادنا من
الدول الفاشلة, ووضع مكانتها وسمعتها في الحضيض. وهم من أهدروا ثرواتها وقادوا
نظامها السياسي الي حافة الإفلاس وأصبحت مؤسساتنا بؤر للفساد والرشوة والمحسوبية بالرُغم
من ان شعبنا الطيب المكافح يملك كل الثروات الطبيعية التى منحها الله له!
وأخيرا
فهل آن الاوان لهؤلاء البلعيط السياسيون, ان يستحوا من أنفسهم ويتركوا المشهد
السياسي لغيرهم من أبناء الوطن الشرفاء المخلصين لقيادة هذه المرحلة وإخراج هذا
البلاد من هذه التعاسة التى تمر بها؟ أم انهم لا يستحوا
ووصلوا لمرحلة "ما بعد الإستحياء," وبذلك ينطبق عليهم قول رسولنا (ص) الذى قال: أذا لم
تستحى فصنع ما شيئت... فياسادة ليس لديكم ما تقدموه لإنقاد الوطن
الجريح الا خروجكم من المشهد السياسي, فهل لديكم الشجاعة الكافية للقيام بذلك.... أدعو الله ان تستجيبوا لذلك ...
والله المستعان.
berween@gmail.com
No comments:
Post a Comment