Tuesday, November 15, 2011

من السياسة (*) ( 1 من 4 )









(من السياسة (*) ( 1 من 4

"السياسة فى كل شىء... ومن أكبر آفات السياسة... الادعاء."

السياسة فى عصرنا اليوم للأسف الشديد أصبحت مصطلح مرادف لكل ما هو سلبيى فى حياتنا. فعند البعض تعنى المراوغة والرياء والخداع والكدب ومحاولة تحقيق النصر مهما كلف الثمن. وأصبح مقياس السياسى الناجح عند بعض الناس هو الذى يتحلى بهذه الصفات والرذائل واصبح كل من يتحلى بالصدق والامانة والوفاء والحق هو انسان فاشل وينبغى الا يتعاطى السياسة.

من هذا المفهوم السلبى إنطلق الكثير من السياسيين والمفكرين وأخدوا يعرفون السياسة على أنها "فن الخداع," و"فن الغش," و"فن السيطرة," و"فن التغلب," بكل الوسائل. ولعل من بين هؤلاء المفكرين "ديزرائيلى" الذى عرف السياسة بأنها: "فن حكم البشر عن طريق خداعهم." فالخداع فى نظر ديزرائيلى هو الاسلوب الذى يجب ان يتخده كل سياسى (ناجح) من أجل حكم البشر والسيطرعليهم. وأصبح ينظر الى كل فن من فنون الحكم الناجحة على أنها خداع ليس الا. (نخبة من العلماء, 1982, ص17).

وقد بداء هذا الفهم الخاطى للسياسة المفكر الايطالى نيكولو ميكافيلى (1469- 1527). فهو الذى شجع السياسيين على إستخدام كل الوسائل والاساليب من أجل تحقيق الاهداف التى يسعون اليها. فقد عرف مكافيلى السياسة على انها " فن الوصول للسلطة, وزيادتها, والمحافظة عليها بغض النظر عن الوسائل التى تستخدم لتحقيق لذلك" (نخبة من العلماء, 1982, ص36). فهل هذة هى السياسة حقا؟

فى هذا المقال سوف أحاول تسليط بعض الضوء لتوضيح هذا الامر وذلك بالاجابة على الاسئلة الاتية:
(1) ما هى السياسة؟
(2) ما هى أهم خصائص (أو أبعاد) السياسة؟
(3) ماذا تعنى السياسة من منظور إسلامى؟
(4) ما هى أهم الثوابت فى السياسة الاسلامية؟
(5) ما هى أهم المتغيرات فى السياسة الاسلامية؟
 (6) ما هى أهم الشروط التى يجب توافرها فى السياسى المسلم؟

"أولا:" ماهى السياسة؟
الحقيقة ان للسياسة تعريفات عديدة لعل من أهمها تعريف البروفسور هارولد لازويل على أنها "دراسة النفود والنافدين. أو بمعنى اّخر هى دراسة من يتحصل على ماذا ومتى وكيف" (لازويل, 1958, ص13). أما البروفسور برنارد كراك فيقول بان السياسة فى أحسن حالاتها هى نشاط أخلاقى للتوفيق بين الخلافات الاجتماعية والاقتصادية ولبناء حكم المجتمع بدون الفوضى والاستبداد والعنف" (كراك, 1962). أما البروفسور ديفد يّستون فيعرف السياسة على أنها: "التوزيع السلطوى للقيم فى المجتمع" (يّستون, 1965, ص50). وأخيرا البروفسور هانس مورقنتو أحد أقطاب مدرسة الواقعية السياسية وصاحب كتاب: "السياسة بين الدول: الصراع من أجل القوة والسلام, الصادر عام 1948," يعريف السياسة على انها "الصراع من أجل القوة والثاتير." والقوة بالنسبة له تعنى العلاقة النفسية بين الذين يمارسونها والذين تمارس عليهم. وإن الهدف الاساسى للقوة هو تحقيق"المصلحة العليا للدولة" ( مورقنتو, 1973, ص28).


ثانيا:" ماهى أهم خصائص (أوأبعاد) السياسة؟
للسياسة العديدة من الخصائص وألابعاد الاساسية لعل من أهمها الاتى:

1. " غريزة فطرية"
بمعنى ان السياسة هى ظاهرة إنسانية مرتبطة بالانسان كإنسان وتستمر معه من ولادته حتى مماته. وإنطلاقا من هذا الفهم يصف الفيلسوف أرسطو(384-322 ق. م) الانسان بأنه "حيوان سياسى" ويعرف السياسة على انها علم السلوك الجماعى. ويؤكد فلاطون (428-347 ق.م) بأن الولاء السياسى هو جزء لا يتجزى من حياة الانسان ويعرف السياسة على انها فن تربية الافراد فى حياة جماعية مشتركة, أوهى العناية بشؤون الجماعية (بدوى, ص 69-75). وعليه فالسياسة هى قوام الحياة فى المجتمع وبدون السياسة لا وجود للمجتمع ولا للدولة الناجحة.

2. "لعبة قوة"
ينظر بعض المفكرين للحياة السياسية بانها "لعبة نفود يلعبها كل الناس," وإن الغرض الاساسى من هذه اللعبة بسيط جدا: هو أن يحدد الانسان ما يريد ويسعى من أجل الحصول عليه بكل الطرق والوسائل. ولعله من بديهيات الحياة السياسية ان الذين يصنعون قواعد هذه اللعبه دائما ينتصرون. هذه القاعدة أتصور انها صحيحة بغض النظرعن الاشخاص والزمان والمكان والظروف السياسية الا في الحالات الاستثنائية. فلو حاولت على سبيل المثال أن تلعب مع أخيك الصغير لعبة ما فسرعان ما يصرخ في وجهك بمجرد شعوره بالخسران قائلا لك: ليس هكذا نلعب هذه اللعبة. وسرعان ما يقوم بوضع قواعد جديدة تساعده على النصر.

3. "صراع إرادات"
لعل من أهم ما يميز السياسة انها صراع دائما بين المصالح المتضاربه. بمعنى فى غياب الصراع والمنافسة وتضارب المصالح لا داعى لوجود السياسة. وبمعنى اّخر أذا لم يكن هناك اختلاف فلن يكون هناك سياسة. ومن هذا المنطلق يمكن القول بان السياسة هى علم وفن التعامل مع الاختلافات بالاساليب التى تحقق الاهذاف المنشودة والغرض من هذا الصراع هو الحصول على السلطة والنفود والقوة.

4. "عملية إدارية"
بمعنى ان السياسة هى عملية إدارة الارادات المتصارعة من اجل توزيع القيم فى المجتمع. وان الهدف الاساسى من هذه العملية  (أوالعمليات) الادارية هى تحقيق وممارسة وتوزيع القيم السلطوية فى الدولة.

5. "وسيلة وغاية"
بمعنى من جهة يمكن اعتبار السياسة وسيلة لانها تتيح الفرصة لكل المواطنيين لتحقيق مصالحهم وأهدافهم. ومن جهة أخرى يمكن اعتبار السياسة غاية لانها نشاط إجتماعى لها قيمة فى ذاتها.

6. "أذاة محائدة"
بمعنى السياسة فى الاصل هى عملية محايد. يعنى أنها تتلون بألوان الافكار والمبادى التى يحملها اللاعبين السياسيين الذين يلعبونها. فعلى سبيل المثال إذا كان اللاعبون إشتراكيون فسوف تكون السياسة إشتراكية, واذا كان اللاعبون راسماليون فسوف تكون السياسة راسمالية, واذا كان اللاعبون إسلاميون فسوف تكون السياسة إسلامية... الخ.


7. "ممكن... و ... مباح"
بمعنى ان السياسة الناجحة هى التى تقوم على أساس الايمان والعمل من أجل تحقيق الممكن أو كما يعرفها البعض بأنها "فن الممكن." ولكن من المهم ايضا ان نعى بأن السياسة ليست بالضرورة هى فن الممكن فقط, وذلك لانه ليس بالضرورة كل ما هو ممكن مستحب ومرغوب ومباح. ومن جهة أخرى ليس بالضرورة كل ما هو غير ممكن مستحيل. فهناك اشياء كثيرة من الممكن القيام بها ولكن مضارها اكثر من منافعها. وباختصار شديد يمكن القول فى هذا الشان ان السياسة هى ما عبر عنه الاسلام بمفهوم المستطاع. يقول الله تعالى: "فاتقوا الله ما إستطعتم." (التغابن: 16). ويقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما أستطعتم."(الصحيحين, وإبن تيميه ص43). وبناءا على هذا فيجب ان يكون شعار السياسى الناجح هو القول الماثور: "اذا أردت ان تطاع ... فأمر قدر المستطاع.."

ثالثا:" ماذا تعنى السياسة من منظور إسلامى؟
قدم فقهاء وعلماء الاسلام تعريفات عديدة لمفهوم السياسة لعل من أهمها تعريف الامام العلامة الحنبلى ابن عقيل الدى عرف السياسة على انها: "كل فعل يكون معه الناس أقرب الى الصلاح وأبعد عن الفساد وان لم يصفه الرسول صلى الله عليه وسلم ولانزل به وحى ومن قال لا سياسة الا بما ينطق به الشرع فقد غلط وغلط الصحابة فى شريعتهم"(عبد السلام ص66 وخالد, ص221). أما العلامة الشيخ عبد الوهاب خلاف فقد عرف السياسة الشرعية على انها: "تدبير الشؤون العامة للدولة الاسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار, بما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية, وان لم يتفق وأقوال الائمة المجتهدين."(أبوحبيب, ص43).
واذا سلمنا بانه فى العادة توجد السياسة بين الفرقاء لا بين الاصدقاء. بمعنى اذا لم يكن هناك إختلافات وفروق فلا ينبغى ان يكون هناك سياسة. ونتيجة لان ظواهر الاختلاف والتنوع هم ظواهر طبيعية فى كل زمان ومكان, فان السياسة يجب ان تكون هى السمة التى لابد من وجودها والاهتمام بها فى كل مجتمع يريد ان ينهض وذلك بأستثمار ظواهر الاختلاف والتنوع فى المجتمع وجعلهم ظواهر ايجابية. وانطلاقا من هذا الفهم يتحقق فينا قول رسولنا صلى الله عليه وسلم فى هذا الصدد: "اختلاف أمتى رحمة" (رواه البيهقى).
 

وإذا جاز لى ايعادة صياغة تعريف السياسة بناءا على ما سبق ذكره, وبما يتمشى ومصطلحات وتحديات العصر, وبما لا يتعارض مع مبادىء الاسلام, فيمكن القول بأن السياسة هى: "فن وعلم إدارة صراع الارادات من أجل تمكين القيم فى المجتمع."
 

ولعله من المناسب ونحن نتحدت عن مفهوم السياسة ان نوضح الفرق الجوهرى بين السياسه من منظور اسلامى والسياسات السائده اليوم في الشرق والغرب. ان أغلب السياسات اليوم تنطلق من الشعار القائل بانه: "لا توجد قيم دائمة. ولا صداقات دائمة, وانما هناك مصالح دائمه " فالمصلحه في نظر هذه السياسات هى الاصل. فعلى المصالح تلتقى الدول ومن اجلها تتصارع. وفي سبيل هذه المصالح تدوب كل القيم, وتتلاشى كل المباديْ, وتنتهي كل الصدقات, وتباح كل الوسائل المشروعة منها والغير المشروعة, انطلاقا من الشعار الذى يقول:"الغايه تبرر الوسيله." والغايه في نظرهم هي المصلحه, والمصلحه هي كل شيء.
 

اما السياسة من منظور إسلامى فهي على النقيض من هذه النظرة النفعية. فهي سياسه تحترم المنفعة الانسانية وتقدر المصلحة ولكن تضعهما في مكانهما الطبيعي. وهي سياسه تنطلق من انها سياسه قيم اولا وقبل كل شيء وما المصالح الا من أجل تمكين القيم. وان القيم هي الاساس في جميع المعاملات والتصرفات فى الدولة. ومن هذا يمكن القول بان السياسة من منظور إسلامى تعيد صياغة هذا الشعار كالاتى:
" ليس هناك مصالح دائمة ... ولا صداقات دائما ... وانما هناك قيم دائمة

فالقيم هى الاساس التي تقوم عليها كل المجتمعات ولا يمكن ان نجد مجتمع بدون قيم مهما كان نوعها او مدى ارتباط المجتمع بها. من هنا فاننا نجد كل المثقفين والمفكرين في كل المجتمعات وكل الحضارات قد اهتمت بدراسة القيم وكيفية ترتيبها. واغلب هؤلاء المثقفين والمفكرين يعرفون القيم على انها "الاشياء المفضلة لدى الانسان والتي تحددها الثقافة التي يعيش فيها." والحقيقة ان مفهوم القيم من منظور إسلامى لا يختلف اختلافا جوهريا مع هذا المفهوم وانما يختلف معه فيما اطلق عليه في الغرب بنظرية "سلم القيم" اى نظرية ترتيب هذه القيم وانواعها. فالمفكرون الغربيون يؤمنون بان للقيم قائمة ترتيب حسب اولويات المصالح صعودا ونزولا. وان هذه القائمة تتغير بتغيرالعصور والجماعات والظروف. بمعنى انه لا توجد قيم ثابتة فالكل في نظرهم متغيرإ, اما القيم من منظور إسلامى فيمكن تقسيمها الى قسمين أساسيين هما: قيم ثابتة وقيم متغيرة.
فأما القيم الثابتة فثابتة دائما لانها من اصل الاسلام من جهة ومرتبطة بطبيعة الانسان من جهة أخرى. وهي لا تخضع للزمان ولا للمكان ولا للبيئة. وهي قيم محدودة ومحصورة. واما القيم المتغيرة فهي تختلف باختلاف الزمان والمكان تخضع لأختلاف الظروف الاجتماعية والبيئة.
وإنطلاقا من هذة النظرة الاسلامية للقيم يمكننا القول بأن السياسة من منظور إسلامى تقوم على مجموعة من الثوابت ومجموعة من المتغيرات ويجب على كل سياسي مسلم ان يدركها وأن يميزها اذا اراد النجاح في عمله.
 

فى الجزء الثانى من هذا المقال باذن الله سوف أحاول الاجابة على السؤال الثالى :


ما هى أهم الثوابت فى السياسة الاسلامية؟


يتبع... 

والله المستعان.


د. محمد بالروين
berween@hotmail.com
________________________
الهوامش:
* سبق لي نشر جزء من هذا المقال في :
(أ) المسلم فى عالم السياسة
Ash-Shuruq al-Islami (Islamic Sunrise) Magazine. Lynnwood,
Washington, USA: Islamic Press Agency, June 1985.
Vol. 1, No. 5. p. 23
و(ب) الثواب و المتغيرات فى السياسة الاسلامية"
In: Shuhada Libya (Martyrs of Libya) Magazine. Publishes
periodically bythe General Union of the Libyan Students (1989)
USA:Vol. 9, No. 30, pp. 21-24.
__ تقى الدين أبو العباس أحمد بن تيمية (الطبعة الاولى 1983) "السياسة الشرعية فى إصلاح
الراعى والرعية." منشورات دار الافاق الجديدة - بيروت.
__. أنظر كتاب:
Harold Lasswell, (1958) “Politics: Who Gets What, When, How.”
(New York: Meridian Books).
__ أنظر كتاب:
David Easton, (1965) “A Framework for Political Analysis”
(Englewood Cliffs: Prentice-Hall)
__ أنظر كتاب:
Bernard Crick (1926) “In Defense of Politics
(Chicago: University of Chicago Press) chapter 1 .
__ أنظر كتاب:
Hans Morgenthau (1973) “Politics among Nations: the struggle
for power and peace.” 5th. edition.
New York: Alfred A. Knopf Publisher.
__ ثروت بدوى (الطبعه 1972) "النظم السياسية."
__ فاروق عبد السلام (1980) "الاسلام والاحزاب السياسية." مكتبة قليوب للطبع والنشر.
__ خالد محمد خالد (1985) "دفاع عن الديمقراطية." الطبعة الاولى. القاهره: دار تابي للنشر والتوزيع.
__ سعدى أبو حبيب (1982) "الوجيز فى المبادىء السياسية فى الاسلام." :تاب النادى الادبى
الثقافى : دار البلاد للطباعة والنشر. الطبعة الاولى.
__ نخبة من العلماء والمفكرين (1982) "لمحات من الفكر الاسلامى." ص 17

No comments:

Post a Comment

أخر مقالات نشرتها