Saturday, April 04, 2020

النـمـرود: من البعوضة الي الكورونا

النـمـرود: 
من البعوضة الي الكورونا 
د. محمد بالرويـن


الظاهرة النمرودية

باختصار شديد هي حالة استبدادية واستعلائية واستغلالية، تستهين فيها الطبقة الحاكمة بعقول الآخرين وكرامتهم، وتنتهك حريتهم وتستغلهم أسوء استغلال. وتُسخر كل ما في يديها من إمكانيات وقدرات لتنتصر لآرائها ومفاهيمها الخاصة، لكي تستمر في سيطرتها على الشعوب وثقافاتها، واجبارهم على تبني افكارها واتباع قوانينها التي لا تتعدي مصالحها الشخصية وأغراضها الذاتية.


بمعني هي مرحلة تتحول فيها الطبقة الحاكمة الي أعلي درجات العناد والطغيان، وإنكارها الحق وادعائها المشاركة في صناعته، كما ادعاء النمرود عندما قال: "أنا أحيي وأميت." وقد يتجاوز طغيان الحاكم المستبد، في هذه الحقبة، كل حدود الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويصل الى درجة التحكم في حقهم في في العبادة، ويأمرهم بعبادته هو وحده، كما فعل فرعون عندما قال لقومه "انا ربكم الأعلى."


وبمعني آخر هذه الظاهرة المرضية تنتشر في المجتمعات عندما يشعر الانسان بانه في غناء عن كل من حوله، وانه قادر بنفسه على القيام بما يريد، مصداقا لقوله تعالى: "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى.» وعند هذه الحالة يُعلن تمرده وعصيانه وتجبره على كل ما هو حوله، ولعل اول من مارس هذه التفكير الضال في التاريخ هو ملك يُدعي "النمرود."


النمرود

هو ملك قوي يُقال انه حكم الدنيا كلها في عصره قبل أربع ألاف سنة من الان. ويقال ان اسمه النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح عليه السلام. وكان يحكم شعبه بالحديد والنار ونصب نفسه إله وطلب من شعبه ان يعبدوه.


والحقيقة انه لم يرد اسم النمرود في القرآن الكريم, وانما ربط مفسرون مثل الطبري وابن كثير بين الملك البابلي والملك الذي تحداه سيدنا إبراهيم عليه السلام كما ورد في سورتي الأنبياء (آية 68)، والبقرة (آية 258), وذُكر الملك نمرود في التراث الإسلامي في العديد من كتب المفسرين, الا أنهم اختلفوا في نسبه, [للمزيد راجع: تفسير ابن كثير 1/686, وانظر أيضا المنجد, 2020)].


اما الكتب المقدسة الأخرى فقد وصفته بأنه "ملك في أرض ما بين النهرين، وهو حفيد نوح عليه السلام، وأنه كان جبارا في الأرض، وانه ملك تمرد على الله،"(للمزيد راجع: بوابة الكتاب المقدس, 2020). وقد ذكر النمرود بالاسم في التوراة من دون أي تفاصيل، وذكر ببعض التفصيل في كتب اليهود الأخرى مثل التلمود. ويروي انه مات عام 2167 قبل الميلاد،" (للمزيد راجع: مارتن جي. كوالنز, 1992).


وعليه فان الملك نمرود كان "أول جبار في الأرض، وهو أول من وضع التاج على رأسه وتكبر وادعى الربوبية، "(للمزيد راجع: بسام رمضان, 2014). وقد كان رجلًا قويًا وخبيثًا وخادعًا وملكاً مستبداً. "وكان يعبد الأصنام، بل صنع صنما لنفسه وأمر شعبه أن يعبدوه،" (للمزيد راجع: جاسم التنيب, 2019). وهو الذي تحداه إبراهيم عليه السلام في مناظرة،" (للمزيد راجع: احمد محمد, 2014).


سيدنا أبراهيم والنمرود؟

بالرغم من النمرود حكم مدن ومناطق عديدة، الا انه لم يشعر يوما بامان كبير علي عرشه. وكان دائما يخشى من أن يظهر ذات يوم سليلًا لوريث نوح وخليفته ويطالب بالعرش، وبالتالي كان مصمما على عدم وجود منافس له،(للمزيد راجع: نيسان مندل،  2016).                    
وفي يوم من الأيام رأي في المنام، كوكبا ظهر في السماء، فغطي ضوء الشمس، فسأل حكماء قومه، فأخبروه بان ولدا سوف يولد هذه السنة ويقضي على ملكك. فأمر بقتل جميع الاولاد الذين يولدون هذه السنة. وفي تلك السنة ولد سيدنا ابراهيم، فخافت عليه امه فخبأته في سرداب، حتى إذا بلغ عمره سنه واحده، واعتقد الناس ان عمره ثلاث سنوات، استطاعت امه اخراجه من السرداب ولم يتعرض له الملك،"(للمزيد راجع: احمد محمد 2014).


بعد فترة سمع النمرود عن سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي دعى قومه لعبادة الله، ولكنهم رفضوا وأصروا على عبادة الأصنام، فما كان من إبراهيم عليه السلام إلا أنه حطم أصنامهم باستثناء كبيرهم ليثبت لهم أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، ليعرفوا أنها مجرد حجارة لا حول لها ولا قوة، فكيف تحميهم وهي لا تستطيع الدفاع عن نفسها، فأعد قومه النار ليحرقوا فيها إبراهيم عليه السلام جزاء ما فعله بآلهتهم، ولكن النار لم تحرقه. وعندما سمع النمرود بذلك تعجب كيف نجا إبراهيم من النار، وأراد مناظرته ومجادلته في أمر ربه،"(للمزيد راجع: بسام رمضان, 2014).


المناظرة بين سيدنا أبراهيم والنمرود؟ 
            لقد ذكر الله سبحانه وتعالى جوهر هذه المناظرة في آية بالقرآن الكريم هي قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ."(سورة البقرة: الآية 258).  
  ويتلخص جوهر هذه المناظرة في الآتي:       
* سأل النمرود سيدنا إبراهيمَ عليه السلام: مَن ربُّك؟

* فرد سيدنا إبراهيم عليه السلام: ربي الذي يُحيي ويُميت.


* فقال النمرود: أنا أحيي وأميت. وأمر بإحضار شخصين من الشعب في مجلس المناظرة فقال لهما حكمت عليكما بالإعدام والموت فقتل أحدهما وترك الآخر وقال لإبراهيم ألا ترى أني أحيت أحدهما وأمت الاخر.


* فرد عليه إبراهيم عليه السلام: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتي بها من المغرب.


* فاحتار النمرود وانقطعت حجته، ولم يبق له كلام يجيب به ولا حجة يعرضها، ولهذا قال تعالى: فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين.


البعوضة ونهاية النمرود؟
بعد الانتهاء من هذه المناظرة بين سيدنا إبراهيم عليه السلام والنمرود, والتي يمكن اعتبارها اول مناظرة في تاريخ البشرية, والتي خسر فيها النمرود الحجة وتحقيق ما كان يرغب في تحقيقه امام جماهيره التي امرها بعبادته من دون الله. شعر النمرود بالعجز والذل، وزاد تمرده وطغيانه. فما كان من الله عز وجل الا ان بعث له ملكًا يأمره 
بالإيمان بالله وطاعته، فعندما رفض وتكبر قال له الملك: اجمع جموعك وأجمع جموعى.
يقول ابن كثير "فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، فأرسل الله عليه ذبابًا من البعوض، بحيث لم يروا عين الشمس وسلّطها الله عليهم، فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظامًا بالية." وحارب الله النمرود بمخلوقا بسيط وضعيف جدا وهو ان "أرسل له بعوضة فدخلت في أنفه واستقرت في دماغه، فكان يطلب من الناس أن يضربوه بالنعال على رأسه ليخف الألم، وكان لا يستريح إلا عندما يضربه أحدهم على رأسه بالنعال، وعذبه الله مثل عدد سنوات حكمه حتى مات من كثرة الضرب بالنعال، فمات ذليلا بعد ان كان ملكا،" (للمزيد راجع: بسام رمضان, 2014).

الخاتمة: من البعوضة الي الكورونا؟!!




بعد أربع ألاف سنة تقريبا من قصة الملك المتجبر نمرود الأول وكيف كانت نهايته، هل يحق للمرء ان يسأل: عن الغرض من هذه الحرب العالمية التي يشنها، هذه الأيام، ما يُعرف بفيروس الكورونا؟ وهل يمكن اعتبارها تذكير للبشرية بما يقومون به وبالمسار الخاطئ الذي يسيرون فيه؟ وهل يمكن النظر لها على انها أدارا وتذكيرا لهم بأنهم، بالرغم من كل ما وصلوا له من علم وتقدم وتكنولوجيا، وبالرغم من كل الأسلحة الفتاكة التي يمتلكونها، لازالوا لن يستطيعوا مواجهة أضعف وأصغر مخلوقات الله؟! وهل يمكن استنتاج ان "الظاهرة النمرودية،" التي ظهرت قبل أربع الاف سنة، هي حالة يمكن تكرارها كلما  ظهرة اعراضها ومسبباتها وخصوصا الاستبداد والاستعلاء والاستغلال في الأرض؟


الحقيقة ان المرء إذا نظر في والوقع والظروف التي يعيشها عالمنا هذه الايم، فسيري أن التاريخ يعيد نفسه بعد أربع ألاف سنة تقريبا من حكم النمرود! فقد كثرت الصراعات والفتن، وساد الاستغلال والظلم. وأصبحت الحروب تتوالى وتسير في دوائر مُفرغة، واصبحت الحروب ضرورة لاستمرار الصناعات الحربية العملاقة ومن اهم مصادر الدخل القومي فيما يُعرف بالدول المتقدمة.


والعجيب ان هذه الدول المتقدمة وشركاتها الحربية العملاقة وجدت نفسها مُضطرة (لترويج بضائعها) لدعم الدكتاتوريين والمستبدين! فما ان مات مُستبد (أي نمرود حديث)، حتى حل محله عشرات المستبدين الآخرين، كلهم يقومون بنفس الأدوار، ويمارسون نفس الاعمال، وينتهكون كل الحرمات، ويعبثون في الأرض فسادا، ويعيشون علي زرع الفتن وزعزعة الاستقرار، ويتمردون على كل ما هو جميل ومقدس في مجتمعاتهم.


والعجيب اليوم أيضا انه بالرغم من ان الانسان قد استطاع الذهاب الي الفضاء، وبعث المراكب المتطورة لاكتشاف المريخ. هذا الانسان الذي ادعاء بانه قد وصل من العلم مداه، وسيطر باكتشافاته التكنولوجية على (كل) ما يوجهه، وانه يستطيع ان يتنبأ بما سيحدث له في المستقبل!  

ها هو، وبعد كل هذه الإنجازات والتقدمات العلمية الرهيبة، نجده يقف حائرا وعاجزا على مواجهة "مخلوق صغير جدا، تم أكتشف أخيرا، وتحديدا في بداية شهر ديسمبر 2019, في مدينة "ووهان" بالصين. هذا المخلوق لا يمكن رؤيته بالعين المجرد، وكما يقول العلماء انه مخلوق "غير حي،" وانه غير قادر للانتقال بنفسه من مكان الي آخر! وقد أطلق العلماء المتخصصين في هذا المجال على هذا المخلوق أسم "فيروس كورونا!" والعجيب أكثر انه لم يجد هذا الانسان امامه من كل الاختراعات والإنجازات العلمية التي اكتشفها، الا "التكنولوجيا التقليدية القديمة والبسيطة،" الا وهي الهروب من هذا المخلوق، والدُعاء الي الله بالنجاء منه، والابتعاد الاجتماعي، أي فصل الافراد عن بعضهم البعض، وتشجيعهم على البقاء في منازلهم وبيوتهم لمدة طويلة! وجعلهم يشكون ويخافون من كل شيء يقتربون منه او يلمسونه، حتى ولو كان من أعز الناس لهم، او من أثمن الأشياء التي يملكونها.


فهل آن الأوان لهذا الإنسان ان يعيد النظر في أولوياته وأهدافه. فبدلا من استخدام العلم والتكنولوجيا للتنافس في صناعة الأسلحة الفتاكة وشن الحروب المدمرة، الي المزيد من طلب العلم والمعرفة وتسخيرهما لخدمة الإنسانية وسعادتها. وهل آن الأوان لهذا الإنسان ان يتعظ وان يذرك انه كلما تكبر وطغي وتجبر، سيبعث الله عز وجل له أضعف مخلوقاته ليهزمه ويقهره وربما يقضي عليه!... وهل سيتعظ هذا الانسان ان سر فناءه يكمن في تقدمه.. وان عظمة قوته تكمن في ضعفه! ... فهل يعي هذا الانسان المدني المتحضر كل هذه الدروس! وهل يذرك ان الظاهرة النمرودية هي ظاهرة قابلة للتكرر، وفي بعض الأحيان قد تكون نهايتها خسارة الانسان نفسه... وفي الختام لعله من المناسب ان اختم هذا المقال بسؤال هو: ما هي اهم الدروس والعبر التي يجب استخلاصها من هذا الهجوم العالمي الذي يشنه هذا المخلوق الصغير والضعيف والقاتل والمرعب للجميع؟... أدعو الله عز وجل ان نعي ونستوعب هذه الدروس والعبر....



والله المستعان.



د. محمـد بالرويـن

berween@gmail.com

=========


المراجع:


المنجد، "مناظرة إبراهيم النمرود،" 29 مارس 2020.

 https://almunajjid.com/courses/lessons/121



أحمد محمد، "النمرود ادعى الربوبية.. وقهره إبراهيم."جريدة الاتحاد, 01 يوليو 2014,

https://www.alittihad.ae/article/57979/2014/


جاسم التنيب, "النمرود.. فتنة الماضي والحاضر." جريدة الأنباء، سبتمبر 2019,                    https://www.alanba.com.kw/kottab/gasem-mohamed-eL-tneeb/924546/19-09-2019


بسام رمضان، "قصة الحاكم الذي امتلك الأرض كلها وقتلته ذبابة," مجلة المصري اليوم , 01 أغسطس 2014,   https://www.almasryalyoum.com/news/details/492659


آر. جي. سكينر (2014)  God and The End of Satan / Dieu and La Fin de Satan: Selections: In a Bilingual Edition Paperback, by Victor Hugo (Author), R. G. Skinner (Translator), E. H. Blackmore (Foreword), Publisher: Swan Isle Press; Bilingual edition (March 1, 2014)



بوابة الكتاب المقدس، (2020).

https://www.biblegateway.com/quicksearch/?quicksearch=nimrod&qs_version=GNV



مارتن جي. كوالنز (1992)،

Martin G. Collins, "What the Bible says about Nimrod." (1992)  
https://www.bibletools.org/index.cfm/fuseaction/Topical.show/RTD/cgg/ID/388/Nimrod.htm


No comments:

Post a Comment

أخر مقالات نشرتها